لا يمكنك إلغائي


لا يهم من تكون، إلى أيّ جنس تنتمي، و لا تهم لغتك كيفما كانت، و لا يهم لونك و شكلك، و حتى انتماؤك الفكري أو العقائدي أو الايديولوجي، المهم في كلّ هذا، أنّك كائن مفكر، أنّك كائن تساهم في حركية الأفكار، تتفاعل مع الناس و تتجاوب معهم. إنها الفكرة التي لطالما ميّزت الكائن المقدس، إنها اللغز و الحل، إنها المفكَك و المفكِك معا، إنها الحياة.

فمن هناك، من بعيد، من وراء البحار، و من خلف الجدار، دخلت ذهني فكرة الأفكار، فجعلتني أدرك أنني فاعل، أنتمي إلى الفاعلين المغامرين، و أحتاج فقط إلى القليل من الشجاعة لأحدث فرقا، و أبني المستقبل.

سكنتني هذه الفكرة التي تشبه العجوز هيكلا، و تلبس عنصر الشباب مضمونا و متنفسا، و أسرّت لي برسالة قصيرة المبنى، طويلة المعنى. فنزلت عليّ مترجمة في جملة وحيدة، خفيفة على اللسان، و عصية عن النسيان، "أيّها الإنسان تواضع".

و هنا يجعلنا نطرح الآتي: ما هو التواضع؟ و كيف تتم عملية تجسيده على الواقع الملموس؟

لو عدنا إلى علبنا السوداء من ذاكراتنا فإنّ لكل منا منظاره، و قد نختلف في تصوراتنا له، و لكنّ التواضع عندي هو نوع من الترفع، تظهر فيه الذات الإنسانية جانبها الخيّر، و يتجسد على أرض الواقع بالامتناع.

و هنا وضمن هذا الطرح، فالبشريّ مهما أقام من قواعد و نظم، و شرّع من قوانين و تعاليم، فإننا نجده أوّلا و أخيرا يضع هذه القوانين في شفير هاوية، إذا ما هو أخضع لها، أيّ أنّه يضع المبدأ و يتلذذ بانتهاكه، و كلما أسرف البشر في تقنين الأمور و التصرفات و الاختيارات و المعاملات و الروابط، فإنه سيزيد من قابليته لخرقها، و التعامل معها دون أن يتركها تتعامل معه، أيّ أنها ستزيد من مساحة الألغام التي تحيط به، و بالتالي يزيد من معدل انفجارها عليه بشكل مخيف.

فلطالما شعر الإنسان بالسيطرة في حين أنّه لا يملك التعامل مع هذا المفهوم سوى من خلال التجبّر و التكبّر، اضافة إلى الاقصاء.

فحتى السيطرة تتكوّن واقعيا من ثنائية المسيطِر و المسيطَر عليهم. إنها قِبلة خصبة لذوي النقصان المحسوس جوهريا قبل الظاهر.

فهي عملية تدار برأس واحد، و لا تجيد إلاّ استخدام الفروض لتنفلت من الفرض ذاته. فسواء كان العالم خيّرا أم شريرا فإنه عالمنا، و ما الإنسانية إلاّ عصارة هذا المحيط و نتيجة لتفاعلاته.

قد نبدوا في هذا التحليل أننا نرفض النسق، و الترابط، اضافة إلى الأخذ بعمليات التوحّد و النمطية التركيبية، لكننا في الحقيقة التي هي جوهر اعتمادنا، و توجهنا، نحاول الربط بين الانتاج المتناثر في نقاط كثيرة من هذا العالم المترامي.

إنّ لفلسفة ايقاظ الذات، و تحويل الأفكار، و استنطاق المبهم، مهما كان ضئيل العبق و التخصص إلاّ أنه يجعل الآلة العقلية في دوران مستمر، و وقوده سيكون حتما تلك القدرة المدهشة لأيّ ذات مهما بلغ مستواها و ذكاءها، و شدة تأثرها و تأثيرها، إلاّ أنها تبقى أحد أجزاء المحرّك الضخم، الذي يسمى ثقافة، و بعده يظهر على أنه مجتمعا قبل أن يكون جنسا قائما على الانتماء لطينة واحدة. فكما قال الشاعر:

نسي الطين أنه طين حقيـر

فصال في الأرض و عـربد.

إنها دعوة عامة، و قوّة لطيفة تدفع البشر نحو الابداع، و في الوقت نفسه تجعل العالم أجزاء متفاعلة تكامليا.

فالبشر قاصر مهما ارتقى، و الفرد بحاجة لأخيه الفرد الذي يشبهه في مكوناته و خصائصه، و التي تجعل منه بشريا مهما امتلك من قوة و مجد، لهذا أيها المخلوق الضعيف: تواضع.


السيّد: مـــزوار محمد سعيد