على هامش التغيير الحكوميّ الأخير

تحتاج البلاد إلى حكومة جديدة, شكلاً ومضموناً; أي ليست جديدة بالترتيب الزمنيّ فقط, كما أنَّها - بالتأكيد - ليست من النادي التقليديّ للحكومات. فالنادي التقليديّ للحكومات, أُستُنفدت أغراضه, تماماً, ووصل إلى طريق مسدود. أكبر دليل على ذلك, هو أنَّه في ظرف سنة واحدة, تقريباً, استهلكت البلاد عدَّة حكومات مِنْ هذا النادي, نفسه, مِنْ دون أنْ تحظى, لو بشيءٍ يسير, من الحلول الناجعة. وبعد كلّ حكومة, كنّا نعود إلى نقطة البداية, نفسها; لكن, أيضاً, بمشكلاتٍ أكبر وأكثر تعقيداً. وهذا طبيعيّ; فعدم حلِّ المشكلات في وقتها, لا يلغيها; بل يزيدها صعوبةً وتفاقماً.


ما الذي ستفعله الحكومة الجديدة, بعنوانها الذي عرفناه وتركيبتها المتوقَّعة, أكثر ممَّا فعلته الحكومة (أو الحكومات) السابقة? لا شيء, بالطبع. لأنَّ هذه الحكومة هي نفسها, تقريباً, الحكومة السابقة والتي قبلها والتي قبلها.. الخ. إنَّها, كلّها, تكاد تكون حكومة واحدة; سوى أنَّ أسماء رؤسائها ووزرائها مختلفة. أمَّا السياسات فهي نفسها, والمناهج أيضاً; وبالتالي فيُتوقَّع لها المصير نفسه كذلك.


المشاكل الموجودة, الآن, في البلاد تختلف نوعيّاً عن كلّ ما سبق, وظروف المنطقة والعالم مختلفة جذريّاً, أيضاً; وهذا, كلّه, يحتاج إلى تعاملٍ مختلف, تماماً, ورجالٍ آخرين غير أولئك الذين جُرِّبوا, مراراً وتكراراً, ولم تثمر تجاربهم إلا المزيد من المشاكل المستعصية.


الحكومة المطلوبة والضروريَّة, الآن, هي تلك التي لا تني الخيارات تلفّ حولها وتدور مِنْ دون أنْ تقترب منها.. إنَّها الحكومة الائتلافيَّة التي تتمثَّل فيها التيَّارات السياسيّة (والاجتماعيَّة) المختلفة, وتتبنَّى برنامجاً إنقاذيّاً واضحاً, وتلتزم بجدول أعمالٍ محدَّدٍ وواقعيّ; عنوانه تهيئة البلاد لحياة سياسيَّة جديدة; حياة ديمقراطيَّة تُعنى بالأبعاد المعيشيَّة والاجتماعيَّة للناس, وتعيد بناء الاقتصاد والسياسات بأفق التحرّر الوطنيّ.


على أيَّة حال, ليس نادي الحكومات وحده هو المطلوب تغييره; إنَّما, أيضاً, أسلوب تشكيلها; فإلى أنْ نصل إلى مرحلة الحكومات البرلمانيَّة, من الضروريّ أنْ يتمّ اختيار رؤساء الحكومات بناء على مشاورات حقيقيَّة وواسعة وجديَّة مع القوى السياسيَّة المختلفة (في المعارضة والموالاة) والقوى الاجتماعيَّة والنقابيَّة; ثمَّ تتمُّ دعوة هذه القوى للمشاركة في الحكومة وفي تنفيذ البرنامج الوطنيّ الذي يتمّ الاتِّفاق عليه.


لا يستطيع أيّ طرف أنْ ينهض, وحده, بمهمّات المرحلة الحاليَّة; فما نحن إزاءه, الآن, تحوّلٌ تاريخيّ عميق وليس سياقاً للتفاعلات اليوميَّة العاديَّة. لذلك, لا بدَّ مِنْ إجراء حوارٍ جديّ وشامل, بين الجميع, لتلمّس جدول الأعمال الموضوعيّ لهذه المرحلة, وصياغة مهمّاته وأهدافه بصورة علميَّة مدروسة, وحشد أوسع طاقات الشعب لتحقيقها.


ويجدر بنا أنْ ندرك جميعاً أنَّ أسلوب الحكم السابق قد انتهى تاريخيّاً وموضوعيّاً في جميع البلاد العربيَّة; وأنَّ استمرار العمل به رغم ذلك, لن يمطَّ عمره إلى ما لا نهاية; بل سيؤدِّي, بدلاً مِنْ ذلك, إلى ضياع الفرصة المحدودة المتاحة لنا الآن للتحكّم بتحوّلات التاريخ الضروريَّة وتوجيهها وجهة صحيحة; وعندئذٍ, ستشتغل آليَّات التاريخ مِنْ تلقاء نفسها وبشكلٍ أعمى; وبدلاً مِنْ أنْ نتحكَّم بها نحن, ستتحكَّم هي بنا ونصبح تحت رحمة تفاعلاتها الهوجاء ومقتضياتها المضمَرَة. والمجتمع العاقل الناضج هو الذي يستعين على حلّ مشاكله بالحوار الجديّ العميق والمسؤول; ليتوصَّل, مِنْ ثمَّ, إلى حلولٍ متَّفق عليها تنسجم مع شروط التاريخ واتِّجاهاته وتجيب على أسئلته الموضوعيَّة وضروراته.