اخبار البلد_
غريب ما
نشهده اليوم من ردات فعل انفعالية على صحوة عربية، لم تعد تحتمل السكوت على
تجاهل الأنظمة العربية لعملية إصلاح جادة، تؤدي الى توسيع قاعدة صنع
القرار وتقاسم السلطات، والعمل على تنمية مستدامة تشمل كافة المواطنين.
ردات
الفعل هذه، تحاول البناء على حالة عدم الاستقرار التي تنتاب دولا مثل: مصر
وسورية، لتستنتج ان الوضع الماضي، الذي كان قائما -اي استقرار زائف غير
قابل للاستدامة وعلى حساب حقوق اساسية للمواطن- افضل مما هو عليه اليوم.
ويرى
بعض أصحاب هذه المواقف فيما يجري، تسليم دفة الحكم لحركات اسلامية هدفها
الهيمنة على إدارة البلاد من خلال فكر إقصائي، يمنع الغير من العمل
السياسي، ويتعدى على الحقوق الفردية، ويحارب الأقليات الدينية. اذا كانت
هناك حاجة ماسة لتوضيح موقف الحركات الإسلامية في الوطن العربي بأسره،
وجبهة العمل الإسلامي في الاردن بشكل خاص، من هذه المسائل، فمن الإنصاف ان
نعترف ان أيا من القوى المدنية التي حكمت العالم العربي منذ الاستقلال،
الثورية منها قبل المحافظة، لم تول قضية التعددية السياسية أية عناية.
لعل هناك حاجة، إذاً، لقراءة المشهد العربي بعيدا عن الانفعالية والتبسيط والإقصائية ونظريات المؤامرة والنظرة الاستسلامية للأمور.
ليس
بالضرورة ان يكون مستقبل العالم العربي مرهونا للفوضى وعدم الاستقرار،
وليس حتميا ان يكون مرهونا ايضا للقوى الاسلامية او اية جهة ترفض الاعتراف
بطبيعة التنوع العرقي والديني والفكري للمجتمع العربي. يجب قراءة ما يجري
اليوم في سياقه التاريخي والمنطقي: إنه بداية جدية لمعركة كان ينبغي ان
تبدأ منذ زمن ولم نفعل، معركة حقيقية من اجل التعددية السياسية والثقافية
والدينية في كافة الأوقات.
في الماضي، كانت المعركة بين السلطة وكل من
نادى بحقوق سياسية، اما اليوم فيتوجب ان تكون معركة تخوضها كل القوى
الفاعلة على الأرض في صف واحد، المدنية منها التي حملت التعددية السياسية
شعارا دون تطبيقه، وكذلك الدينية التي حملت شعارات تشكك بالتزامها
بالتعددية السياسية والدينية - معركة لضمان التعددية للجميع، دون مواربة
وتسويف وتلاعب بالألفاظ من أي كان.
اذا كان لمجتمعاتنا العربية الانتقال
الى حالة ازدهار حقيقية ومستدامة، فعلى كافة القوى العمل وعلى الأرض لضمان
هذه التعددية، بحيث لا يعود مسموحا لا للقوى المدنية باحتكار السلطة،
مستخدمين الاسلام السياسي كفزاعة، ولا للقوى الدينية باحتكار الحقيقة او
ادعاء القداسة.
ان الوصول الى هذه الحالة المتقدمة من النضج السياسي، لا
يتم عن طريق قرارات نخبوية، بل بضرورة انتقال كافة القوى للعمل المنظم على
الارض، ولعل هذا هو اهم الدروس التي يمكن استنباطها بعد اكثر من عام على
بدء الصحوات العربية، وذلك لتحقيق المطالب السياسية والاقتصادية
والاجتماعية لأية مجموعة او تيار دون التعدي على حقوق الآخرين.
القوى
الاسلامية، ادركت ذلك ومنذ عقود، بينما اكتفى بعض - ولا اقول كل - التيارات
المدنية بالتنظير السياسي النخبوي حينا وتخوين العمل الحزبي احيانا، فكانت
النتيجة الابتعاد عن حاجات الناس او عدم القدرة على التكلم باسمهم بشكل
مقنع.
هذا يفسر الى حد كبير هذه النظرة الاستسلامية للعديد ممن يرى في
صعود الاسلاميين تغييرا حتميا لنظم حياتهم واعتداء على حرياتهم الفردية.
ان
ضمان الحريات الفردية والحقوق السياسية، لن يتأتى بعد اليوم الا من خلال
العمل الحزبي المنظم لإسماع صوت المواطن. إن ادراك هذه الحقيقة وبدء
المعركة لتحقيقها، من اولى ثمرات الصحوات العربية.
لقد بات فتح المجال
لحرية العمل الحزبي ضرورة لا ترفا للمواطن، مع الإدراك التام بأن مثل هذه
الحرية ستعطي الاسلاميين افضلية في المدى القصير، وهبتهم اياها الحكومات
العربية حين منعت عن الآخرين حرية العمل السياسي المنظم، ووصمت مثل هذا
العمل بالخيانة للوطن.
اما الدرس الثاني، فهو استحالة استدامة اعتماد
بعض المجموعات او الأقليات على أنظمة دكتاتورية، تعطيها بعضا من حقوقها،
وتؤمن لها نظم حياتها، بينما تسلب جل حقوق إخوانها من المواطنين.
صحيح
ان النظام التونسي السابق اعطى المرأة الكثير من حقوقها المشروعة، لكن صحيح
ايضا، انه استباح معظم حقوق التونسيين، فهل تقبل المرأة التونسية مقايضة
هذه بتلك؟ واضح ان الطريق لنيل هذه الحقوق المشروعة يمر من خلال العمل
المنظم، عوضا عن مروره عبر زنزانات النظام السابق.
كما لا يصح ان يدعم
المسيحيون في سورية نظاما قتل الآلاف من اخوتهم، بداعي ان هذا النظام حفظ
حقوقهم الدينية، بينما قد لا يفعل البديل ذلك.
لقد كان المسيحيون
السوريون دائما في طليعة الحركات التحررية والعروبية في الوطن العربي
وسيبقون، لأن المواطنة الحقة ان تنظر لنفسك جزأ لا يتجزأ من مجتمعك، وان
تعمل من اجل حقوق كافة المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم.
اما الدرس
الثالث، فهو أننا بدأنا بدخول مرحلة من العمل السياسي على الأرض، حيث
الجميع سواسية. من يختار السياسة معتركا يقبل بالضرورة ان لا قداسة دينية
او مدنية لأحد، كان إسلاميا أم مدنيا، محافظا أم ثوريا، داخل السلطة او
خارجها.
من المهم بمكان الاتفاق وطنيا على قواعد العمل السياسي من
الآن فصاعدا. من يرغب الدخول به يقبل ان الساحة مفتوحة للجميع، وان الشعب
وحده مصدر السلطات، له حق الإتيان بأي قوى للسلطة وإخراجها منها.
هذه
من اهم ايجابيات الصحوات العربية التي وضعت الجميع تحت المسطرة ذاتها، فلا
تحتمي الأحزاب الدينية وراء الدين وتدعي قدسية ليست لها، ولا تمنع القوى
المدنية الإسلاميين من العمل السياسي تحت ذريعة عدم التزام الاخيرة
بالتعددية، في الوقت التي حرمت هذه القوى المدنية اية تعددية حقيقية حين
كانت في السلطة.
لا بد من الاعتراف بأن الصحوة العربية الأولى ضد الحكم
العثماني والاستعمار الأجنبي، نجحت في تحقيق الاستقلال للشعوب العربية،
لكنها فشلت فشلا ذريعا في بناء نظم تعددية، تكفل انظمة للرقابة والمساءلة،
وتضمن عدم تغول سلطة على اخرى، وتحقق التداول السلمي والدوري للسلطة.
الأمل
اليوم، هو في بداية جديدة تتعلم من أخطاء الماضي، وتؤسس لمستقبل مختلف،
وهي مرحلة بدأت لكنها لن تكون سهلة او سريعة او دون العديد من الأخطاء، ولن
يتحقق من خلالها الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي بين ليلة وضحاها.
لكن
العوامل متوافرة، خاصة في الاردن الذي توفر قيادته مظلة مطلوبة من الجميع
لإصلاح تدريجي وجاد في الوقت ذاته، لبداية حقيقية إن ادركت كافة القوى
استحالة الاستمرار بإقصاء الآخر، وانتهاج سياسة التعددية الانتقائية سواء
من الاسلاميين او القوى المدنية. ان طريق الوصول الى الاستقرار والازدهار
المستدامين يمر بالضرورة من باب التعددية.
نخطئ إن جعلنا هذه المعركة
بين القوى الإسلامية والمدنية، حين يجب ان تكون بين من يؤمن بالتعددية من
الطرفين ضد من يصر على إقصاء الآخر من الطرفين ايضا.
وبغير ذلك لن ننجح
ببناء مجتمع ديمقراطي تعددي، تحكم فيه الأغلبية وتحترم حقوق الأقلية، ولا
يتعدى على الحريات الفردية. مجتمع يسود فيه حكم القانون على الجميع دون
محاباة او تفضيل لفئات على اخرى.
هي ايضا معركة يتم التحول فيها من
الشعارات الى البرامج التي تحاسب القوى عليها من خلال نجاحها او فشلها في
تلبية حاجات المواطنين، فالوعود بالإصلاح دون التنفيذ وشعار "الاسلام هو
الحل"، يبقى كلاهما قاصرين إن لم يقترنا ببرامج تنفيذية، تخلق فرص عمل
وتحقق تنمية شاملة تشاركية ومستدامة.
هي معركة من اجل التعددية.