التعليم مرة أخرى


أغرق في قاع الكثير من قضايانا المجتمعية، وأنهمك في محاولة تحليل المواقف السياسية المحلية والإقليمية والدولية، أتبعثر مع الكلمات على شواطئ الأدب والوجدان، أرحل مع قوافل الأعباء اليومية على صعيد الشأن الخاص والعمل العام، إلا أن نظراتي تأبى إلا أن تحملق في حقيقة مرة واحدة، وحاسة سابعة لدي تخبرني بأن تلك اللوحة المهملة المعلقة على الحائط هناك، تخفي خلفها وثيقة تاريخية مدون فيها كلمة السر الكبرى.
تبقى قضية التعليم في الوطن العربي عموما، وفي الأردن على وجه الخصوص هاجسي الأول والأخير، وعندما أعجز عن كتابة كلمات لا تناسب إلا دقات قلب الزمن الجميل، ونحن في زمن يتقيح قبحا ودمامة، وعندما ترفض الجريدة أن تنشر لي مقالا سياسيا بحجة أن السماء مسقوفة، أرى أن واجبي يحتم علي أن أعود إلى المنبع والمجرى والمصب وهو التعليم.
لقد اجتاحت المدارس الخاصة الأردن بشكل كبير، وهي تتنافس فيما بينها من حيث الرسوم المدرسية الباهظة، والمناهج التعليمية المستوردة، إلا أن هنالك استهجان عام من قبل أولياء الأمور وخاصة المتعلمين والمثقفين منهم، إزاء الكيفية التي تتعاطى بها هذه المدارس -كإدارة وهيئة تدريسية- مع العملية التربوية والتعليمية ككل، فلم يعد المعلم معنيا بالعملية التربوية، ولم يعد باستطاعته أن يمثل قدوة تتدفق عطاء معرفيا وأخلاقيا وثقافيا وتاريخيا وعلميا ينهل منه الطالب، معلم اليوم كباقي المواطنين المسحوقين يتعامل مع مهنته كوظيفة تدر عليه مالا يمكّنه من دفع الفواتير المتراكمة على عنقه المصلوب على مقصلة الغلاء، ولم تعد العملية التربوية بالنسبة له تمثل رسالة مقدسة سيتمثلها جيلا كاملا، نعوّل عليه في المشروع العربي القومي النهضوي الإصلاحي.
أما على الصعيد التعليمي فلقد حملت موجة الاجتياح حقائب استعمار ثقافي واضح، يهدف إلى زلزلة الكيان العربي المسلم، وتشويه الهوية العربية، وسلخ الطالب عن جذوره الحضارية التاريخية، عندما تبتسم الأم بكل فخر وخيلاء لابنتها وابنها وهما يخاطبانها باللغة الإنجليزية، وعندما تتكسر هي أرصفة الغنج وهي تصرّح بأن أطفالها لا يحسنون التعبير عن أنفسهم باللغة العربية.
سحقا لأمة تندثر وتتلاشى على أيدي أبنائها الذين يشعلون حرائق تغريب ثقافي وفكري وحضاري في أذهان أبنائهم وهم يظنون وهما أنهم يحسنون صنعا.
لم تعد اللغة العربية "راقية" بما فيه الكفاية لتواكب رقيهم المنخور زيفا وكذبا حتى النخاع، ولم يعد التاريخ بقضاياه الكبرى وهامته العملاقة يتسع للفكر الذي تم تعليبه في قوال "ميسّي" و"جون سينا" و"عرب أيدل"، ولم تعد الخارطة التعليمية قادرة على استيعاب الخارطة العربية بقضاياها العروبية الوطنية والقومية، وبقدسها وأقصاها واتفاقية سايكس بيكو القديمة منها والجديدة.
العملية التعليمية اليوم أصبحت نشاطات رياضية وأخرى محوسبة، تهدف إلى التركيز على شخصية الطالب، وتعمل على تنمية قدراته الجسدية والنفسية، وترمي إلى تطوير معرفته بكيفية استخدام الحاسوب وإجراء أبحاث مختلفة عليه.
أنا لست ضد الفقرة السابقة أبدا، بل أعلم تماما إيجابياتها وامتيازات امتلاك الطالب لتلك المهارات، ولكنني أتساءل عن المادة العلمية المحشوة في المناهج التي يتم استيرادها، من دون أن يتم إعداد معلم قادر على التعامل مع تلك المناهج بشكل مثمر وناجع، وأتساءل عن التصحر الثقافي والأخلاقي الذي زحف على فكر هذا الجيل، وعن الجفاف العربي المدقع مقابل الطوفان الإنجليزي الجارف الذي يعاني منه أبناء الصحراء والبادية؟
نعم نريد لأبنائنا أن يتعلموا كيفية استخدام الحاسوب والأجهزة الإلكترونية، ولكننا نتوقع منهم أن يتعلموا أولا كيفية التعامل مع الأحياء الآخرين بصدق وشرف ونبل وكرامة، نحب سماع أبنائنا وهم يتحدثون بلغات أخرى، ولكن بعد أن تتقن حواسهم أسس اللغة العربية كتابة وقولا ونحوا وإملاء وبلاغة، لأن اللغة ليست مبتدأ وخبرا أو فعلا وفاعلا، بل هي وعاء فكري حضاري ثقافي، ولا أفهم أن تتشدق كل المدارس بأهمية العمل على تعزيز ثقة الطالب بنفسه، وهي تزعزع ثقته بأصله وهويته وحضارته وتاريخه وكينونته، وتزرع في اللاوعي لديه بأن الأجنبي أفضل، وثقافته أقوى، ولغته أرقى، وهيمنته سائدة، وبالتالي فتبعيته واجبة!
هل هي العولمة؟ هل هو التطبيع؟ هل هو قانون القوة والغلبة؟ هل هو استعمار ثقافي؟ هل هي أمية مقنعة؟ هل هي تجارة رابحة؟ هل هي غفلة من قبل المسؤولين؟ أم تواطؤ من قبلهم؟ هل هو ارتباط عناصر القوة والمصلحة والثراء؟ هل هو مبدأ أنا وبعدي الطوفان؟ هل هي موضة العصر وآخر صيحاته؟ أم أنها مؤامرة تهدف إلى تفتيت المجتمع من الداخل عوضا عن رمية بقنبلة نووية من الخارج بغية تدميره وإبادة كوادره البشرية؟
عندما تأتي طالبة في المرحلة المتوسطة وتعدد أسماء المشاركين في برنامج "عرب أيدل" دون أن تغفل اسم مشارك واحد، ثم تسأل معلمتها ببراءة الجاهل الأمي عن اسم خارطة خرجت من قبو التاريخ وتمزقت على ضفاف الوجع، دون أن تعلم أنها خارطة فلسطين، وعندما يتم غسل أدمغة أبنائنا بمفاهيم حول حوار الحضارات وأهمية السلام بين الشعوب، في حين يتم إقصاء وإبادة مفاهيم تتعلق بالمقاومة، وشرف الدفاع عن الأرض والكرامة، وفريضة الجهاد ضد المحتل، وعندما يجهل أبناؤنا الأحداث والشخصيات العربية سواء التاريخية أو المعاصرة أمام إلمامهم التام بأسماء لاعبي كرة القدم والفنانين، أعتقد أننا نحتاج إلى الوقوف وقراءة الفاتحة على روح الأمة!