مصر وتونس نموذجاً ...صنع في أميركا.. أزمة الطبقة الريعية الوظيفية

تنويه 1: إن ما بعد مصر وتونس هو غير ما قبلهما كمسار تاريخي لتمظهر الأزمة وكطريقة في إدارة الصراع الدولي والتحكم به.

تنويه 2: إن تحليلنا ينطلق من الظرف الموضوعي (طابع الأزمة) ولا يتناول الاستدراكات الخارجية لامتطاء هذا الظرف الموضوعي من الدوائر الخارجية بهدف تشويه طبيعة التناقض واستثماره وتوجيهه صوب مسارات مشوهة له.
تنويه 3: إن الدور الروسي في الوقت الراهن يكشف بجلاء طبيعة هذه الاستدراكات الخارجية لتوظيف التناقضات والأزمة وإدراجها في سياق التناقض العالمي الراهن في سياق الصراع العالمي الواسع لإعادة تشكيل عالم متعدد الأقطاب.
تنويه 4: قبل اندلاع الاحتجاجات في ميدان التحرير في القاهرة كان اللواء سامي عنان قد أمضى «دورة تدريبية» لعدة أسابيع في واشنطن على إدارة الصراعات. بالعودة إلى الموضوع لا بد من الإشارة إلى أن هذا التحليل ينطبق على كل البلدان التابعة والضعيفة النمو بنفس الوقت.. بمعنى البلدان التي ترتهن في نموها واقتصادها و(بالتالي سياستها) للخارج حيث لا تجد ملاذاتها إلا بهذا الارتباط. هذا من جهة.. ومن الجهة الأخرى فإنها تتسم ببطء النمو مادام هذا النمو مرتبطاً بعلاقتها مع المراكز الخارجية (المتروبولات) حيث نجد أن بلدين مختلفين تماماً مثل اليمن والإمارات أو البحرين يصطفان في النسق نفسه على الرغم من معدل النمو المختلف ومعدل استقطاب رأس المال المختلف الذي ينتج عنها عمارة أكثر وحضارة أقل.
لقد اخترنا مصر وتونس لأن لهما سياقاً تاريخياً مختلفاً عن ليبيا أو اليمن أو البحرين أو دول النفط الأخرى. ومن حيث المبدأ فإن لكل قطر سياقاً تاريخياً مختلفاً تلعب فيه الجغرافيا. وطبيعة التركيبة الهيكلية للسكان وأنماط الانشطار الاجتماعي (شاقولية أم أفقية) وتركيبته الطبقية والاثنية إلى ما هنالك من العوامل التي تحدد السياق التاريخي مع ما يسمى اللحظة التاريخية أو المنعطفات التاريخية وعلاقتها بالزمان والمكان.

استقلالية القرار الوطني وتفادي الأخطاء
ولكن يبقى أن فرضيتنا الأساسية هي أنه في عصرنا هذا المعولم والأحادي القطب (حتى الآن) والذي تسيطر عليه مجموعات المحافظين في أغلب الدول النافذة والذي يتسم بمخاضات وآلام الولادة لإعادة التشكيل على تعددية في القطبية الدولية.. في مثل هكذا عصر فإن التبعية للخارج والارتهان له تبقى العامل الأول في نشوء متلازمة الرضوخ والتمرد المرافقة للاستبداد في الداخل وبالتالي فإن كل الدول المحيطية مرشحة للاضطراب المفضي إلى الفوضى أو التقسيم أو الحرب الأهلية أو مزيد من الديكتاتورية. ويبقى الضامن الأساسي لأي دولة لتفادي الأخطار الناجمة عن هذه الفوضى هو مقدار استقلالية قرارها الوطني وتجذر موقفها المقاوم للهيمنة وعمق سياساتها الاجتماعية المرتبطة بمصالح الشرائح الواسعة المنتجة من شعبها.
وإن ما شهدته تونس ومصر يفتح مجالاً خصباً ثراً لأدبيات علم الاجتماع السياسي والاقتصادي لإعادة إنعاش ذاكرة المشتغلين به على مقولات التخلف والتبعية والديكتاتورية.
ولهذا عدنا إلى أدبيات هذا العلم ومصطلحاته في ثمانينيات القرن الماضي. الفترة التي شهدت تمأسس هذين النظامين السياسيين في تونس ومصر وإلى حد ما لبنان... بعد دخول الحريرية السياسية على الخط بما تمثله من رمز للطبقة الريعية.
عدنا وقرأنا للدكتور خليل أحمد خليل عن الديمقراطية والتخلف وللدكتور غالي شكري عن ديكتاتورية التخلف العربي وعن عروبة مصر والتنمية والتقدم والاستقلال الوطني وله في (المفترق: الانهيار أو عصر نهضوي جديد) وللدكتور جورج قرم عن إنتاج الهويات وصراعات الهويات في المجتمع اللبناني وللدكتور فؤاد مرسي والدكتور رمزي زكي، وعن السلطة العربية، والشرعية المفتقدة... وللدكتور مصطفى حجازي: سيكولوجية الإنسان المقهور،
ما هي حصيلة هذه الجولة في أدبيات الثمانينات في القرن الماضي... وهل كان هناك استشراف علمي للتغير الذي حدث الآن في هذه البلدان.

رد الفعل الطبيعي لعلاقات القهر
بعضهم استشرف التغير في مستقبل قريب وبعضهم لم يحدد له موعداً لكنه كان مقتنعاً بأن علاقات الرضوخ والتمرد هي رد الفعل الطبيعي لعلاقات القهر والتسلط وكلاهما يشكل الخاصة الأساسية للمجتمع المتخلف... ما نستطيع إعادة استحضاره بقوة ومنهجية ندعيها في هذا المجال هو أن التخلف كوضعية لإنتاج علاقات القهر والتسلط أو كبنية حاضنة لهذه العلاقات التي تستولد متلازمة الرضوخ والتمرد. وضعية التخلف هذه يبدو واضحاً وجلياًً أنه لا يمكن تحديدها استناداً إلى منطق كمي الذي هو منطق برجوازي أساساً لمفهوم التخلف والتقدم يأخذ مستوى تطور القوى المنتجة أساساً للحكم... بل يجب أن ننظر إلى مفهوم التخلف باعتباره مجموعة من العناصر المرتبطة بنيوياً بظاهرة التبعية... أي إن لب المشكل ليس هو التخلف بمعنى نقص الموارد والمؤسسات وقنوات الاتصال مع مراكز المعرفة العلمية. وإنما هو بالأحرى ظاهرة الإدامة الذاتية للتبعية بمعنى اجتياف التبعية كعلاقة لإعادة إنتاجها من التابع نفسه، بحيث نخلص إلى أن الترابط الوظيفي بين التبعية والتخلف هو الذي يصوغ إشكالية القمع بحيث تغدو الدكتاتورية نظاماً اجتماعياً شاملاً مزيجاً من التراتبية والاثوقراطية والتيوقراطية... إنه نظام اجتماعي يتقن ظاهرة الإدامة الذاتية لآليات التبعية واجتيافها.
الترابط الوظيفي هذا بين التبعية والتخلف هو آلية لنا لتفسير نشوء فائض القيمة التاريخي وهو طريقة لتفسير كيف تنتج علاقة التبعية للخارج. (للأمة) علاقة الاستبداد في الداخل.. وكيف أن علاقة التبعية تنتج علاقة الاستبداد من خلال ربط النشاط الاقتصادي في البلد باعتباره هامشاً ومحيطاً بالمراكز وبالتالي ترسيخ التبعية في حضن هيكل اجتماعي يسمح بقاعدة واسعة من وكلاء الاحتكارات الأجنبية. إن الاستثمارات المصرفية والمساعدات الدورية من مراكز الاحتكارات (لننظر إلى مصر) هي تدعيم مباشر لارتباطات التبعية وتحويلها من حصة لرجال المال والأعمال المحليين إلى أسلوب اقتصادي شامل لمختلف الطبقات. ومن هنا كان التخلف ظاهرة معقدة ومتشابكة وتاريخية تعني بطء الحركة في تحقيق النمو الذاتي الذي ينبع من تأثيرات تفاعلية مشوهة خارجة عن بنية المجتمع وعلاقاته الاجتماعية الداخلية.
نحاول تلمس الخيط الذي يربط التخلف بالاستبداد، بالتبعية للخارج وبالتالي إنتاج علاقات الرضوخ والتمرد كرد فعل منطقي لنجد أننا أمام فرضية تمثل مدخلاً لتفسير ما يحدث متمثلة بوجود دالة /تابع/ حقيقية ومعاملات ارتباط منطقية بين حجم توسع علاقة التبعية للخارج في مصر وتونس ولبنان وبين الاستبداد بالداخل. هذه العلاقة هي التي شكلت مرجلاً حقيقياً مولداً للانفجار بعد علاقة رضوخ استمر عقوداً. مع ملاحظة أن النظام الكومبرادوري اللبناني هو نظام استبدادي بما يتضمنه النمط الكومبرادوري من علاقات استبدادية بعكس ترهات الديمقراطية الظاهرة فيه.
علاقة التبعية هذه التي استولدت نشوء ما يسمى الطبقة الوظيفية الريعية الكومبرادورية المرتبطة بالخارج في نشأتها واستمرارها وتكوين ثرواتها...
هذه الطبقة هي التي استولدت بدورها كل أشكال النشاطات الاقتصادية الهامشية اللازمة لاقتصادات غير حقيقية أنعشت أخلاقيات غير حقيقية ولا تعبر عن الوجدان الجمعي الأصيل.
إن الطبقة المسيطرة المحيطية في علاقتها مع المركز المثروبول الاحتكاري الخارجي هي طبقة وظيفية تسعى من أجل إحكام سيطرتها كطبقة سائدة في الداخل إلى إنتاج علاقات مع بقية طبقات التشكيلة الاجتماعية القائمة عبر دورها كطبقة مديرة للتشكيل المحيطي لمصلحة البرجوازية العالمية.
ومن هنا فإن أي اهتزاز لدورها كطبقة مديرة للتشكيل /وظيفتها إدارة التشكيل/ هو اهتزاز للعلاقة التي تربطها بالخارج.
هذه الطبقة الوظيفية المديرة هي طبقة ريعية بامتياز ولا نستطيع إلا أن نفترض أنها دخلت دائرة التناقض بين دورها الداخلي كطبقة مولدة للريع على حساب باقي الطبقات الاجتماعية التي تسيطر عليها وبين دورها كمصدر للريع المتمثل بـما يسمى فائض القيمة التاريخي لمصلحة أسيادها في الخارج ومن هنا برزت متلازمة العاملين الذاتي والموضوعي.. الثورة أو التمرد الشعبي بعد رضوخ تلازم مع عجز هذه الطبقة عن إعادة إنتاج علاقات التبعية للخارج والتخلف في الداخل.

التمرد الشعبي مع عجز الطبقة الوظيفية
عن إعادة إنتاج علاقة الاستبداد
التمرد الشعبي مع إفلاس هذه الطبقة تاريخياً بحكم تناقض منطقها الداخلي وعدم قدرتها على إنتاج نفسها. وهذا ما يفسر لنا اهتمام الولايات المتحدة البالغ وقلقها /باعتبارها المتروبول الخارجي الأكبر حتى الآن/ من تطور الأوضاع باتجاه لا يسمح لها بإعادة استذراع طبقة بديلة لإدارة التشكيلات المحيطية التي تمثلها هذه البلدان بحكم طبيعة الاقتصادات الناشئة فيها المرتبطة بشكل وثيق وعضوي.
... مشكلة هذه الطبقات الحاكمة أنها لم تعد قادرة على تسويق إنتاج المركز الإمبريالي مادياً وسياسياً وثقافياً بسبب انكشاف دورها التابع في الداخل عن علاقة استبداد حدّت الدور المنوط بها فكان لا بد من أن تتغير هذه الإدارات- السلطات ولكن من دون أن يظن أحد أن المركز الاحتكاري الراعي لها في الخارج كان باستطاعته الإبقاء عليها ولم يفعل... إن الجماهير التي عانت علاقة الرضوخ والامتهان طويلاً في مصر وتونس قد فاجأت الإدارة والمدير، على مستوى العامل الذاتي تحديداً دون أن نغفل عن العامل الموضوعي الذي تندرج فيه كل التأثيرات الخارجية والعوامل المرتبطة بالتحريض والديماغوجيا ووسائط الميديا التي برعت في محاولات تزييف حقيقة التناقضات ونقلها من تناقضات يجب أن تحل لمصلحة المجتمع إلى تناقضات يجب أن توظف ضد وحدة المجتمع.. ولا يظن أحد أن المدير القابع في تشيس مانهاتن لن يحاول حصر التغير بالإدارة فقط أو لن يحاول إدارة الصراع والتحكم به وهو الذي يدمن إدارة الصراعات لا حلها ولكن من قال إن المديرين لا يخطئون؟!
من المهم أن نلاحظ بدقة كيف أن الطبقة الريعية الوظيفية فاسدة على صعيد إنتاج قيمها وإعادة تعميمها على المجتمع. فجمع الثروات من دون عمل /عمولات/ إنما يشكل أفسد دور ممكن والدور الفاسد سينتج قيماً أخلاقية فاسدة على شاكلته وتعميم هذه القيم في المجتمع هو الذي خلق واستولد متلازمة الامتهان والكرامة ومن هنا رأينا كيف أن التمرد (كحالة داخلية صرفة) استقام على حاملين اثنين: الحامل الطبقي... والحامل القيمي المتمثل باستنهاض قيم الاعتزاز الذاتي والوطني والقومي ولكن هل بقي في هذا العالم حالة داخلية صرفة؟!.
إن هذين الحاملين: الطبقي والقيمي يشكلان الرافعة الموضوعية والذاتية لحركات التغيير في كل الدول التابعة- المحيطة التي تتحكم بها وتديرها الطبقة الريعية الوظيفية المرتهنة للخارج. البعيدة عن التماهي بقيم وتطلعات شعوبها. ويبقى نجاح هذه الحركات خاضعاً من ناحية أخرى لعوامل كثيرة تتعلق بمختلف مشاكل هذه المجتمعات ومن أهمها طبيعة الانقسام الحاصل في المجتمع الذي من شأنه إما أن يتيح للتناقض الطبقي القيمي الظهور أو الذي يشوه هذا التناقض أو يغير طبيعته كما هو في البحرين أو ليبيا أو اليمن.
وفي كل الأحوال فإن ما يسمى حركات التغيير ستبقى محاصرة بين طموحاتها الذاتية وإرادة الخارج المتمثلة بإثارة الاضطراب كهدف قائم بحد ذاته. هذا الاضطراب المفضي إلى العماء الخلاق وليس فقط الفوضى الخلاقة ونرى أن كل الدول مرشحة لهذا الاضطراب ويبقى أن الضامن الأساسي لشعوب هذه الدول من الانزلاق إلى «العماء الاستراتيجي الخلاق» هو وعيها الجمعي المقاوم والممانع ونزوعها للاستقلالية وعدم توسع وتعمق ظاهرة التبعية للخارج في بنيتها الداخلية. إن العماء (على مستوى البصر) مرشح مع غياب الوعي الجمعي لأن يصبح العماء (على مستوى البصيرة) وهذا هو الأخطر.
إن تعمق ظاهرة التبعية للخارج في بنية الأنظمة الداخلية وعلى مستوى الطبقة الحاكمة – قمة هرم السلطة- بحيث يمكن أن نطلق عليها (صنع في أميركا) هو الجسر الكبير لانكشاف هذه الطبقة داخلياً على التناقضات التي استذرعتها قوى الخارج في الداخل لتمتطي هذه التناقضات في إدارة الصراعات الداخلية لإنجاز التغيير بمعنى (استبدال) الطبقات الوظيفية (المديرة) الريعية بحيث تمتص إرادة التغيير لإعادة احتواء التناقض مجدداً عبر تغيير الإدارات التي «صنعت في أميركا» لاستكمال عملية النهب التاريخية لفائض القيمة التاريخية للشعوب.
إن من صنع في أميركا إنما صنع من خلال تعميق ظاهرة التبعية للخارج ولهذا فإن إعادة إنتاجه في أميركا أمر ممكن دائماً وهذا ما يجب أن يفهمه عرب أميركا دائماً.
إن الدول التي تعمقت فيها ظاهرة التبعية وتوسعت فيها قبضة الطبقة الريعية ستكون مرشحة للسقوط في براثن ومصائد التضليل. وأكثر من غيرها.. ودائماً سيكون ذلك..