المجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل وتحولات سوق العمل

يشهد العالم اليوم تحولا تقنيا جذريا يقوده الذكاء الاصطناعي، والذي بات يشكل قوة محورية تعيد تشكيل طبيعة العمل وأساليب الإنتاج. هذه التحولات لا تقتصر على تحسين الإنتاجية فحسب، بل تمتد إلى التأثير العميق على أنماط التوظيف والمهارات المطلوبة في أسواق العمل.


تُظهر التجارب التاريخية والتقارير الدولية ذات الصلة أن التطورات التكنولوجية دائما ما تُسهم في توسيع الفرص الاقتصادية وتنويعها، ما يؤدي إلى خلق فرص عمل جديدة. وفي هذا السياق، يؤشر الذكاء الاصطناعي إلى ديناميكية مزدوجة؛ فمن جهة يؤدي إلى إنهاء الآلاف من الوظائف، ومن جهة أخرى يفتح المجال أمام خلق أضعافها من الوظائف الجديدة التي تحتاج إلى مهارات متطورة ومختلفة. هذه التغيرات الجذرية تمثل تحديات وفرصا للأردن، ما يجعل التهيئة الإستراتيجية لهذه المرحلة أمرا ضروريا.
 

إنشاء المجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل جاء كخطوة مهمة تعكس إدراكا وطنيا لأهمية الاستعداد لمواجهة هذه التحديات واستثمار الفرص. وفي الاجتماع الأول الذي عقد برئاسة ولي العهد أول من أمس، تم التركيز على موضوعات أساسية مثل التحول الرقمي، وإدارة البيانات، وتنمية الموارد البشرية التقنية، بالإضافة إلى تعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي. إلى جانب ذلك، هناك أبعاد اجتماعية لا تقل أهمية، تتعلق بتركيبة سوق العمل الأردني وضمان وجود نظم حماية اجتماعية قادرة على مواكبة التحولات المستقبلية.
تأثير الذكاء الاصطناعي في سوق العمل لن يقتصر على الوظائف التقنية أو الإدارية فقط، بل سيمتد ليشمل العمالة اليدوية في القطاعات الإنتاجية والخدمية. فعلى سبيل المثال، خطوط الإنتاج في مختلف القطاعات والأنشطة الاقتصادية التي اعتمدت سابقا على العمالة التقليدية أصبحت تعتمد بشكل متزايد على الأتمتة، ما يفرض الحاجة إلى عمال مؤهلين قادرين على تشغيل الأنظمة الذكية وصيانتها. هذه المتغيرات تضع القوى العاملة أمام تحديات جديدة تتطلب تطوير المهارات والقدرة على التكيف مع المتطلبات الحديثة.
التعليم والتدريب هما المفتاح الأساسي لتجهيز القوى العاملة الأردنية لمستقبل يعتمد على التكنولوجيا. يجب على النظام التعليمي المدرسي وما بعد المدرسي، أن يُحدث نقلة نوعية عبر إدخال مواد تُركز على المهارات التقنية مثل البرمجة وتحليل البيانات، مع تعزيز الابتكار وحل المشكلات. كما أن القطاع الخاص له دور محوري في تدريب الداخلين الجدد إلى سوق العمل، إضافة إلى تحسين مهارات العاملين الحاليين لضمان استفادتهم القصوى من التقنيات الحديثة، مما يزيد من كفاءتهم وإنتاجيتهم.
إلى جانب ذلك، يجب أن ترافق هذه التحولات التقنية تطوير أنظمة حماية اجتماعية شاملة، خصوصا مع ازدياد الاعتماد على الوظائف ذات الطابع غير المنظم. يتطلب ذلك وضع معايير عمل عادلة وضمانات اجتماعية تأخذ في الاعتبار طبيعة الوظائف المستقبلية، لضمان توازن بين تبني التكنولوجيا وحماية حقوق العاملين أنفسهم.
لضمان تحقيق أقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي، يحتاج الأردن إلى رؤية شاملة تعتمد على تعزيز الشراكات العادلة بين القطاعين العام والخاص، وتطوير البنية التحتية التقنية، وتشجيع البحث العلمي والابتكار. التخطيط السليم لهذه المرحلة سيحول الذكاء الاصطناعي من تحدٍ محتمل إلى فرصة كبيرة يمكن أن تسهم في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية مستقبلية، بل هو تحول كبير في هيكلية الاقتصاد والمجتمع. التعامل مع هذا التحول بوعي وتخطيط، من خلال التعليم والتدريب وتعزيز الحماية الاجتماعية، سيمكن الأردن من فتح آفاق تنموية جديدة مع تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.