الاضطرابات النفسية.. أزمة صامتة تتفاقم في المجتمع الأردني
على مدى السنوات القليلة الماضية شهد الأردن سلسلة من الأحداث الصادمة مثل آباء يقتلون أطفالهم وأزواج يقتلون زوجاتهم وأعمال عنف أخرى تركتنا في حالة من الحزن الجماعي وعدم التصديق.
هذه الحوادث وإن كانت نادرة، إلا أنها أثارت نقاشا وطنيا حول حالة الصحة النفسية في الأردن، والحاجة الملحة لمعالجة الاضطرابات النفسية التي قد تساهم في مثل هذه المآسي، حيث باتت أزمة صامتة تظهر تحت سطح المجتمع الأردني بشكل متزايد في حوادث مأساوية وعنيفة.
أستاذ العلاج الدوائي السريري الدكتور ضرار بلعاوي، أن الاضطرابات النفسية تشكل بما في ذلك الاكتئاب والقلق والفصام واضطرابات الشخصية، قضية صحية عامة كبيرة على مستوى العالم، فوفقا لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، فإن واحدا من كل أربعة أشخاص، سيعاني من اضطراب نفسي أو عصبي في مرحلة ما من حياته.
وفي الأردن، كما ذكر بلعاوي فإن الوضع لا يختلف، فقد وجدت دراسة نشرت في عام 2018 في مجلة شرق المتوسط الصحية، أن حوالي 20% من الأردنيين يعانون من شكل من أشكال الأمراض النفسية، مع انتشار الاكتئاب والقلق بشكل خاص.
وعن أسباب هذا الانتشار المرتفع متعددة الأوجه للاضطرابات النفسية، أوضح أن الأردن يواجه مجموعة فريدة من التحديات، بما في ذلك عدم الاستقرار الاقتصادي، ومعدلات البطالة المرتفعة، وعبء استضافة عدد كبير من اللاجئين.
وأضاف أن الأزمة السورية، وضعت على وجه الخصوص، ضغطًا هائلًا على موارد الأردن وبنيته التحتية، مما زاد من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي تساهم في تفاقم مشاكل الصحة النفسية، بالإضافة إلى أن الوصمة المحيطة بالمرض النفسي في المجتمع الأردني غالبا ما تمنع الأفراد من طلب المساعدة، مما يؤدي إلى تفاقم الحالات غير المعالجة والتي يمكن أن تخرج عن السيطرة.
واعتبر أنه في حين أن الغالبية العظمى من الأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية ليسوا عنيفين، فإن بعض الحالات يمكن أن تزيد من خطر السلوك العدواني، خاصة عندما تترك دون علاج، فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي الاكتئاب الشديد إلى مشاعر اليأس والإحباط، وبالتالي التسبب بأفكار انتحارية أو قتل الآخرين، وبالمثل، قد يعاني الأفراد المصابون بالفصام أو الاضطرابات الذهانية الأخرى من أوهام أو هلاوس تدفعهم إلى التصرف بعنف.
وكانت سلسلة الحوادث العنيفة الأخيرة في الأردن أثارت تساؤلات حول دور المرض النفسي في هذه المآسي، كحالة الأب الذي قتل ولديه، فقد كشف الأصدقاء وأفراد العائلة لاحقا أن الرجل كان يعاني من اكتئاب حاد لسنوات، لكنه لم يطلب المساعدة المهنية أبدا، وفي حالة أخرى، قتل زوج زوجته في نوبة غضب، ليتم تشخيصه لاحقا باضطراب في الشخصية، فهذه الحالات تسلط الضوء على العواقب المدمرة للاضطرابات النفسية غير المعالجة والحاجة الملحة، لتحسين الرعاية الصحية النفسية لدينا.
واعتبر بلعاوي أن أحد أكبر العقبات التي تعترض معالجة مشاكل الصحة النفسية في الأردن، هو الوصمة المنتشرة حول الاضطرابات النفسية، حيث أن المجتمع في ينظر للمرض النفسي غالبا على أنه علامة ضعف أو فشل أخلاقي، فيتردد العديد من الأفراد في طلب المساعدة خوفا من النبذ أو الحكم عليهم.
وأضاف أن هذه الوصمة تكون أكثر وضوحا بين الرجال، الذين يُتوقع منهم أن يكونوا أقوياء ويعتمدون على أنفسهم، ونتيجة لذلك، يكون الرجال أقل عرضة لطلب العلاج لمشاكل الصحة النفسية، مما قد يفسر سبب كون العديد من الحوادث العنيفة الأخيرة قد شملت رجالا كفاعلين.
وقد لا تقتصر وصمة المرض النفسي على الأفراد فحسب وفق بلعاوي، بل تمتد أيضا إلى العائلات، التي قد تشعر بالخجل أو الإحراج من حالة أحد أفرادها، مما يؤدي إلى ثقافة الصمت والإنكار، وتجاهل مشاكل الصحة النفسية أو التقليل من شأنها حتى تصل إلى نقطة الأزمة، وفي بعض الحالات، قد تثني العائلات أحباءها عن طلب العلاج، خوفا من أن يؤدي تشخيص المرض النفسي إلى الإضرار بسمعتهم أو فرصهم في الزواج.
وبينما تشكل الاضطرابات النفسية عاملًا مهما في الحوادث العنيفة الأخيرة، أكد أنه من المهم الاعتراف بدور العوامل الاجتماعية والاقتصادية في تفاقم مشاكل الصحة النفسية، فالتحديات الاقتصادية التي يواجهها الأردن، بما في ذلك معدلات البطالة والفقر المرتفعة، خلقت شعورا باليأس والإحباط بين العديد من المواطنين.
وبين أن نقص الوصول إلى الرعاية الصحية النفسية بأسعار معقولة في الأردن يزيد من تفاقم المشكلة، ففي حين أن هناك بعض خدمات الصحة النفسية المتاحة، إلا أنها غالبا ما تكون مركزة في المناطق الحضرية، وقد تكون بعيدة عن متناول أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية أو المهمشة.
وحتى في المناطق الحضرية، نوه بلعاوي إلى أنه يمكن أن تكون تكلفة العلاج باهظة للعديد من الأردنيين، خاصة أولئك الذين يعانون من البطالة أو العمل غير المستقر، ونتيجة لذلك، يظل العديد من الأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية دون علاج، مما يزيد من خطر وقوع حوادث عنيفة.
وفيما يتعلق بمعالجة أزمة الصحة النفسية في الأردن، أوضح أن ذلك يتطلب نهجا شاملا يعالج الأبعاد الطبية والاجتماعية للمشكلة، وقبل كل شيء، هناك حاجة لتقليل الوصمة المحيطة بالمرض النفسي من خلال حملات التوعية العامة والتعليم، من خلال تعزيز فهم أفضل للاضطرابات النفسية وعلاجها، حيث يمكن خلق بيئة أكثر دعما للأفراد الذين يعانون من مشاكل الصحة النفسية.
ولفت إلى أنه يجب الاستثمار في توسيع الوصول إلى الرعاية الصحية النفسية، وهذا يشمل زيادة عدد المتخصصين في الصحة النفسية، خاصة في المناطق الريفية، وجعل العلاج أكثر بأسعار معقولة ومتاحة لجميع المواطنين، كذلك يمكن أن تلعب خدمات الطب عن بعد والاستشارات عبر الإنترنت دورا في الوصول إلى الأفراد الذين قد لا يتمكنون من الوصول إلى الرعاية الصحية النفسية التقليدية.
ونادى بلعاوي بضرورة معالجة العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تساهم في مشاكل الصحة النفسية وتعد أمرا بالغ الأهمية، وهذا من شأنه خلق المزيد من فرص العمل، والحد من الفقر، وتقديم الدعم الاجتماعي للفئات الضعيفة.
وشدد على أن الحوادث العنيفة الأخيرة في الأردن، هي تذكير صارخ بالتأثير المدمر للاضطرابات النفسية غير المعالجة، ومع أن هذه الحوادث نادرة، إلا أنها تسلط الضوء على الحاجة الملحة لمعالجة أزمة الصحة النفسية في الأردن، فالصحة النفسية ليست رفاهية بل حق إنساني أساسي، ومن خلال إعطاء الأولوية للرعاية الصحية النفسية، يمكن إنقاذ الأرواح وبناء مستقبل أكثر إشراقا للأجيال القادمة.