عندما يشمت فرنسيون بموت ماري لوبان

ترافق إعلان وفاة الزعيم التاريخي لليمين المتشدد الفرنسي، جان ماري لوبان، الأسبوع الماضي، مع مشاهد فرح وابتهاج في شوارع مدن فرنسية. كان المظهر غريباً، لأنه كان أقرب إلى الشماتة في وفاة رجل، مهما كان الموقف من آرائه، إلا أنه كان من العلامات البارزة للسياسة الفرنسية منذ النصف الثاني من القرن الماضي.

تلك الشماتة الاستثنائية في موت رجل يبلغ 96 عاماً من الجمهور الفرنسي "المتحضر" كانت محل استهجان كثيرين، فلم يكن على الخلاف السياسي أن يصل إلى حد الفرح برحيل أحد المنافسين، مهما كانت أفكاره متطرّفة، خاصة أنها تظل مجرد أفكار، فالرجل لم يكن شريكاً فعلياً في أي عمل قمعي لاستهداف التيارات، التي كانت ترغب في إقصائه، بل لم تتوفر له أي فرصة حقيقية للحكم، على الرغم من خوضه الانتخابات الرئاسية خمس مرّات.

لوبان الأب مؤسّس حزب الجبهة الوطنية، ورئيسه من بداية السبعينيات وحتى عام 2011، كان معروفاً بامتلاكه لغة قوية وحاشدة بالتعابير بجانب إجادته فن مخاطبة الجماهير، وهما الصفتان، اللتان لا ينكرهما حتى أعداؤه المنصفون. كتبت الصحافية سيلفي بيير بروسوليت من مجلة لو بوان الفرنسية في شهادتها عن لوبان إن وقتاً طويلاً من المقابلات الصحافية معه كان يتعلق بالاستطرادات التاريخية والفلسفية، التي كان يحب أن يتطرّق إليها، ما كان يؤكد العمق الثقافي النادر للرجل مقارنة بغيره.

لوبان، الذي كان أول من حذّر من "الخطر الوجودي"، أي خطر المهاجرين، وفق ما قال اليميني الأكثر تطرفاً إيريك زمور، ترك خلفه ابنته مارين، التي وصل إليها الخبر فيما كانت تزور جزيرة مايوت الأفريقية الفرنسية، التي ضربها أخيراً إعصار "شيدو" مخلفاً أزمة إنسانية. خلفت مارين والدها على الطريق نفسه، لكنها لم تكن مجرّد نسخة، وإنما عمدت في السنوات الماضية إلى إدخال تعديلاتٍ كثيرة على مفاهيم الحزب ورؤيته، بما يجعله أكثر قدرة على المنافسة. كانت تعديلات مارين توحي بدخول حزب والدها، الجبهة الوطنية، عهداً جديداً اختارت له اسم "التجمّع الوطني". لم تتوقف حركة مارين التجديدية هنا، بل مضت أكثر من ذلك إلى حد فصل والدها نفسه عن الحزب في 2015، ما سبب آنذاك ارتباكاً سياسياً وأزمة عائلية.

كان نجاح لوبان الحقيقي يتمثل في أنه كان يجبر الجميع على تداول ما كان يُعرف، في السابق، أفكاراً متطرّفة لا يجوز طرحها للنقاش

كانت هذه الخطوات مهمة في ما يخص مارين، من أجل مواجهة الهجمات وحملات الشيطنة، التي كانت تواجه حزب والدها. لحسن حظ السياسية الطموحة، تزامن صعود نسختها الخاصة من الحزب مع موجة شعبوية أوروبية كانت تحفز انحياز الملايين إلى الأفكار اليمينية، خاصة ما يتعلق بمحاربة الهجرة، الموضوع، الذي كان لوبان الأب من السابقين إلى وضعه على رأس الأجندة الانتخابية. المنطق الشعبوي، الذي ساعد لوبان على تغذيته، كان يربط تزايد معدلات الهجرة بنسب العطالة وبتردّي الاقتصاد.

هذه النقطة مهمة، فقد كان لوبان الأب نفسه، ومع دوره في قيادة اليمين المتشدّد، الذي أصبح على يديه من أركان السياسة الفرنسية، يستبعد أن يفوز في الانتخابات، أو أن يحقق حزبُه نتائج متقدّمة، بل إن كثيرين ممن تعمقوا في دراسة حالته كانوا يفهمون أن غرض الأب الروحي لليمين المتشدد لم يكن الحكم، وإنما ما كان يعتبر أنه مجرّد نقل للوعي. كان نجاح لوبان الحقيقي يتمثل في أنه كان يجبر الجميع على تداول ما كان يُعرف، في السابق، أفكاراً متطرّفة لا يجوز طرحها للنقاش. هكذا استطاع السياسي المخضرم أن يتجاوز التجاهل وأن يفرض وجوده، بحيث لا يكون هناك مفر من استضافته في برامج إعلامية مختلفة. حدث التغير الأكبر في مسيرة اليمين المتشدد مع صعود نجم مارين، الابنة الطموحة التي كسبت كثيراً من الشعبية، إلى درجة أنها مثلت تحدياً لا يمكن الاستهانة به لأحزاب الوسط واليسار، كما ظهر في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة.

أما ما يخص أنصار الرؤية اليمينية، فكان لوبان، الذي كان يعتبر أنه يقول بصوتٍ عالٍ ما يقوله آخرون بهمس، زعيماً وطنياً، كما كان أيضاً على حق، وأن ما حدث محاولة إخضاعه للإسكات والابتزاز من المنافسين من أجل حجب ما كان يمثله.

ساهمت الرغبة في مناهضة أفكار لوبان في ولادة ما بات يعرف بـ"الجبهة الجمهورية"

انتقال السلطة الحزبية إلى الابنة مارين يذكّر بالتوريث السياسي، المنتشر في دول الجنوب. هذه الملاحظة يمكن أن تتعزّز أكثر، إذا ما علمنا أن الأمر لا يقتصر على مارين، وإنما على أختيها أيضاً، فقد كانت الفتيات الثلاث، ومنذ البداية ناشطات ضمن تيار والدهما، ما جعل الحزب يبدو أقرب إلى "بزنس" العائلة. من المفارقات المتعلقة بالمسألة العائلية هذه أن مارين ظلت معروفة باسم والدها، على الرغم من زواجها مرّتين، على عكس عادة النساء الفرنسيات، اللواتي يحملن أسماء عائلات أزواجهن. هذا لا يمكن فصله عما كان يقوله لوبان الأب، حينما يبدي تحسّره على عدم إنجاب ابن يمكنه أن يحمل اسمه. يبدو وكأن مارين أرادت أن تقول إن بإمكان الفتيات أيضاً أن يحملن أسماء عائلاتهن.

لا ينفصل الحديث عن التراث "اللوباني" عن الحديث عن الاتجاه المناوئ الذي يمكن أن يُطلق عليه اسم "لوبان معكوساً". هذا الاتجاه، المتمثل في اليسار المتشدّد أو الراديكالي، كان يصعد هو الآخر خلال العقود الأخيرة من خلال كونه النقيض لأفكار اليمين المتطرّف. وجدت أعداد من الناخبين ضالتهم في هذا اليسار الراديكالي، كما دعموه بقوة نتيجة صدمتهم الناتجة عن التقدّم المفاجئ لليمين، وتحقيق المتطرفين لنتائج استثنائية ونجاحات متصاعدة.

ساهمت الرغبة في مناهضة أفكار لوبان كذلك في ولادة ما بات يعرف بـ"الجبهة الجمهورية"، التي كانت تهدف إلى صد اليمين المتطرّف بإيجاد تحالف بين الأحزاب المؤمنة بالجمهورية. تلك التسمية كانت توحي بأن حزب لوبان مناقض لقيم البلاد.