صندوق عمر سليمان الاسود
قرار اللواء عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات المصري السابق النزول الى حلبة الانتخابات الرئاسية المصرية قبل اغلاق باب الترشيح رسميا بدقائق معدودة، يوحي، بل ربما يؤكد، ان جهة او 'جهات ما' داخل مصر وخارجها دفعت به للإقدام على هذه الخطوة، في اطار 'سيناريو غامض' يجري الاعداد له لقيادة مصر في المرحلة المقبلة.
اللواء سليمان يدرك جيدا ان فرص فوزه في انتخابات رئاسية نزيهة وشفافة، شبه معدومة، وشاهد بأم عينيه، وهو صاحب خبرة طويلة في معرفة اتجاهات الرأي العام بحكم منصبه السابق، ما يثبت هذه الحقيقة، حيث فاز الاخوان المسلمون والسلفيون بأكثر من ثلثي المقاعد في البرلمان المنتخب.
الثورة المصرية قامت للاطاحة بنظام ديكتاتوري فاسد، اذل مصر وصادر دورها الريادي، ونهب ثرواتها وجوع شعبها، وحوّلها من دولة قائدة متبوعة في محيطيها الاقليمي والعالمي، الى دولة تابعة، مهانة، تستجدي المساعدات العربية والخارجية.
الرجل كان شريكا اساسيا في نظام الحكم المذكور، والمسؤول عن معظم الملفات الأخطر المتعلقة بشؤون مصر الداخلية والخارجية ،والاستراتيجية منها على وجه الخصوص، ابتداء من ملف مياه النيل، وانتهاء بالعلاقات الذيلية مع اسرائيل، واعادته الى واجهة الاحداث مجددا عبر الترشح لانتخابات الرئاسة، هي اعادة انتاج او استنساخ للنظام السابق، ونسف كل الطموحات المشروعة للشعب المصري في نظام جديد عصري يعيد له كرامته المسلوبة، ويخرجه من دائرة الفقر والمعاناة والتبعية. الموقف الذي عبر عنه مئات الآلاف من المتظاهرين في ميدان التحرير في القاهرة، والميدان الرئيسي في مدينة الاسكندرية، اي رفض ترشح اللواء سليمان للرئاسة، يعكس قراءة حقيقية عفوية لمزاج الشارع المصري، ورصدا امينا لرغباته ومشاعره التي لا يرقى اليها اي شك.
نحن ضد سياسات الإقصاء، مثلما نحن ضد تجربة 'الاجتثاث' الكارثية التي مورست بشكل انتقامي في 'العراق الجديد'، ولكن وضع اللواء سليمان مختلف جدا، فقد كان صانع قرار في نظام اطاحته ثورة شعبية، وليس تدخلا عسكريا دمويا استعماريا احتلاليا مثلما حدث في العراق.
لا تعترض الغالبية الساحقة من الشعب مطلقا على ترشيح السيد عمرو موسى للرئاسة في مصر، وهو الذي كان الطفل المدلل للنظام السابق، ووزير خارجيته في احلك الظروف واهمها، لأنه كان أداة تنفيذية، وليس صانع قرار مثلما هو حال اللواء سليمان، اي ان الخلاف ليس على اشخاص عملوا مع النظام، فهم قبل كل شيء مواطنون مصريون خدموا بلدهم، وانما مع الدائرة الصغيرة الضيقة التي خطفت الحكم، ووظّفته لخدمة مصالحها الانتهازية الضيقة، في جمع الثروات ومصادرة الحريات، ومرمغة السيادة والكرامة المصريتين في التراب.
هناك من يجادل بالقول انه طالما ان هناك رفضا شعبيا كبيرا للواء سليمان، مما يعني ان فرصه في الفوز محدودة للغاية، فلماذا كل هذا الخوف منه؟ وهو جدل ينطوي على الكثير من المنطق، ولكن نعكس السؤال نفسه ونقول اذا كان اللواء سليمان نفسه يعرف هذه الحقيقة ايضا، فلماذا يترشح وفي الربع ساعة الاخير للرئاسة، وهو ابن السادسة والسبعين وينتمي الى مرحلة مختلفة، انتهت بالطريقة المهينة لأصحابها التي نعرفها جيدا؟
ترشح اللواء سليمان قد يكون مشروع فتنة، لزعزعة استقرار مصر، وفي اطار مشروع امريكي غربي عربي لإجهاض الثورة المصرية وبذر بذور صدامات دموية، وتفتيت الوحدة الوطنية التي ترسخت حول هدف اسقاط نظام الفساد.
الصراع في مصر الآن بين دولة عسكرية ودولة اسلامية، ويبدو واضحا ان المؤسسة العسكرية المصرية تفضل اللواء سليمان لقيادة مصر في المرحلة المقبلة، تحت ذريعة علاقاته الدولية المتشعبة واتصالاته مع المؤسسات المالية العالمية، وخبرته الأمنية العميقة، لكن السؤال هو كيفية ايصاله الى سدة الرئاسة وعبر اي سلم، هل هو سلم الانقلاب العسكري، ام سلم الانتخابات الرئاسية المزورة، واللواء سليمان يمثل نظاما يملك باعا طويلا وتراثا عريقا في تزوير الانتخابات؟
ولم يكن مفاجئا ان يهدد اللواء سليمان بفتح 'الصندوق الاسود'، للمخابرات العامة التي كان يرأسها لعقدين تقريبا، لكي يكشف للمصريين المستور والكثير من الأسرار التي تتعلق بخبايا القوى السياسية المصرية، وتنظيم الاخوان خاصة، فالرجل ما زال ينطلق من عقلية امنية انتقامية، وليس من عقلية رجل دولة من المفترض ان يكون ممثلا لكل فئات الشعب ومتصالحا معها، ومترفعا عن الثأرات الشخصية.
اسرار الدولة ليست ملكا شخصيا للواء سليمان او غيره، وانما ملك للشعب المصري ومؤسساته الوطنية، ومن هنا فإن قرار إفشاء هذه الأسرار لتصفية حسابات، او لتوظيفها في حملة انتخابية لمصلحة هذا الطرف او ذاك، هوانتهاك صارخ للقانون، والامن القومي المصري.
اللواء سليمان ذهب بعيدا جدا، وتصرف وكأنه ما زال رئيس جهاز الاستخبارات عندما قال في تصريحات صحافية انه سيزيل العمامة عن رأس مصر، في اشارة الى هيمنة الاسلاميين على مقدرات البلاد، فمن المفترض ان تكون هذه هي مهمة الشعب المصري وعبر صناديق الاقتراع، وليس من خلال القمع والاعتقالات، مثلما كان يفعل النظام السابق الذي كان الرجل الثاني فيه.
سيدنا ابو بكر الصديق رضي الله عنه منع جميع المرتدين من الانضمام الى جيوش الفتح الاسلامي لأنهم ارتدوا على الاسلام، وبالتالي ليسوا موضع ثقة واهلا للمشاركة في نشر الدعوة، ولم يتغير هذا الوضع الا في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي سمح لهم بالانضمام الى جيوش الفاتحين كجنود ولكن دون ان يتقلدوا اي مناصب قيادية في الجيش او في الولايات، ولنا في هذين الخليفتين قدوة حسنة.
نخشى على مصر من مؤامرة كبيرة لإفشال ثورتها، فكثير مما نراه ونتابعه من احداث تجري يؤكد مخاوفنا، خاصة حالة الفلتان الامني المتصاعدة، التي تهدف الى دفع الشعب المصري للكفر بالثورة، والقبول بأي انسان يضع حدا لها، حتى لو كان اللواء عمر سليمان نفسه.
الاخوان المسلمون اخطأوا عندما ارادوا السيطرة على كل مفاصل الحكم في البلاد، والجمع بين السلطات التشريعية والتنفيذية والرئاسية في شخصهم، الأمر الذي وفر الذرائع والذخائر لخصومهم لاطلاق النار السياسي عليهم من كل الجهات، وتكريس الاتهامات بأنهم طلاب سلطة وليسوا سعاة تعايش.
سمعناهم يردون على هذه التهم بالقول انهم وصلوا الى ما وصلوا اليه عبر صناديق الاقتراع والرغبة الشعبية، وان حزب العدالة والتنمية التركي فعل الشيء نفسه، فالرئيس منه، وكذلك رئيس الوزراء ووزير الخارجية ومعظم الوزراء والمحافظين، وينسى هؤلاء ان حزب العدالة التركي يملك خبرة طويلة في العمل الحزبي، ولم يحقق ما حققه الا بعد انتكاسات عديدة وانقلابات عسكرية مضادة، وانجازات كبيرة على الارض اقنعت الاتراك بإعطائه جميع السلطات وتفويضة لحكم البلاد، ما جعل تركيا تحتل المكانة السابعة عشرة على قائمة اقوى عشرين اقتصادا في العالم.
مصر امام حزمة من الاخطار تغذيها جهات خارجية تريد تركيعها، وليس صدفة ان العرب والغرب وامريكا خاصة لم يقدموا لها حتى فتات المساعدات، وما يطمئننا هو وعي الشعب المصري وأصالته، وإصراره على حماية ثورته والنزول الى ميدان التحرير لتصحيح اي اعوجاج والتصدي للمؤامرة والمتآمرين.