الكاتب القومي فهد الريماوي يكتب : سوريا الحقيقية·· وسوريا الافتراضية !!
اخبار البلد - بفعل التحشيش الاعلامي الذي تبثه فضائيات الفتنة
على مدار الساعة، انقسمت سوريا على اثنين، وتشعبت الى سوريتين·· سوريا الحقيقية، وسوريا
الافتراضية·· سوريا القائمة على ارض الواقع، وسوريا الماثلة في عالم الخيال·· سوريا
الراسخة فوق خرائط الوجود، وسوريا المكتوبة بحروف الخرافة والوهم والسراب·
من بعيد، وبتأثير الضخ الاعلامي المغرض، تبدو سوريا الافتراضية
كما لو انها قطعة من الجحيم، وبقعة ملطخة بالدم والبارود، وبرية موحشة ومحكومة بالجوع
والهلع، وساحة مستباحة يعربد فيها كل من هب ودب، وسفينة مترنحة يتهددها الغرق وتضرب
على غير هدى·
لقد استمات سماسرة التهويش والتشويش والحرب الدعائية في انتاج
سوريا الوهمية، وتسويقها لدى الرأي العام العربي والعالمي، واظهارها على غير واقعها
وحقيقتها·· مستهدفين - كما قال الرئيس الروسي ميدفيديف - "التلاعب بالرٌّأي العام
لتحقيق غايات سياسية معينة، وتلويث وعي الناس"·· غير انهم خسروا مصداقيتهم امام24
مليون سوري يعرفون بدقة ما يجري في بلادهم، اضعاف ما احرزوه من نجاحات خارجية مؤقتة
وسريعة العطب·
طوال الاسبوع الماضي كنت ضيفاً على قاسيون، وسائحاً يذرع
احياء دمشق ويتصفح دفاتر الياسمين·· قصدتها مبكراً على متن السيارة التي تنقل نسخ
"المجد" المعدة للتوزيع في الديار السورية·· كان الصباح ندياً وعطرياً، وكان
الطريق الدولي الواصل ما بين ربة عمون وعاصمة الامويين محروساً بازهار آذار التي تحف
به من الجانبين، ومفعماً بحركة السيارات المنسابة بامان واطمئنان ذهاباً واياباً، رغم
ان سلطان الوقت كان يتكئ آنذاك على عقارب الساعة السابعة والنصف صباحاً·
صبيحة وصولي عاصمة بلاد الشام، كانت فضائيات التخبيص الاعلامي
تتحدث عن معركة ضارية اشتعلت ليلاً في حي المزة، وسقط فيها ثمانون قتيلاً بالتمام والكمال··
من فوري هاتفت الصديق الدكتور محمد سلمان، وزير الاعلام الاسبق الذي يقع مكتبه قرب
مكان الاشتباك، لغرض الاطمئنان عليه وليس الاستفسار عما حدث، ولكن ضحكته المعهودة رنت
في اذني قبل ان يقول لي بظرفه الادبي : ما اعرفه انك ممن تستهويهم البلاغة وليس المبالغة،
فكيف تصدق مثل هذه الفضائيات التي افلست وفقدت شرف المهنة ؟؟ عموماً، سارسل لك سيارتي
كي تحضرك من الفندق، ولسوف تقف بنفسك على حقيقة الامر، لان مكان الاشتباك لا يبعد عن
مكتبي اكثر من مئتي متر·
وهكذا كان، فقد ذهبنا الى مقر الاشتباك الذي وقع في عمارة
سكنية متعددة الشقق، ومؤلفة من خمسة طوابق، وهناك استمعنا الى اقوال الساكنين الذين
اكدوا انهم قد ابلغوا رجال الامن عن شكوكهم في ثلاثة شبان ملتحين عمدوا الى استئجار
احدى شقق البناية، وحين حضرت احدى المجموعات الامنية لاستجلاء الامر، عاجلها هؤلاء
الشباب باطلاق النار، وقد ردت عليهم بالمثل حيث استمر تبادل اطلاق النار الى حين مقتل
اثنين من الشبان (احدهما غير عربي) واستسلام المسلح الثالث، في حين استشهد اثنان من
المجموعة الامنية·· وهذا بالضبط ما كانت قد اعلنته وسائل الاعلام السورية·
طيب، من اين جاءت فضائيات التهليس، وصحافة التضليل والتدليس
الورقية والالكترونية بالثمانين قتيلاً ؟؟ وهل يمكن لسكان تلك العمارة، وابناء حي المزة
وحتى دمشق كلها ان يصدقوا زيف هذه الاعلاميات، ويكذبوا حقيقة ما رأوه بام العين ؟؟
ام ان هذه هي سوريا الافتراضية التي تنفثها انفاس التحشيش الاعلامي ؟؟
في مساء ذات اليوم، ولدى التقائي بالاخ الدكتور عدنان محمود،
وزير الاعلام الرابض على مدار الساعة في مبنى هيئة الاذاعة والتلفزيون المطل على ساحة
الامويين، تداولنا في شأن هذه الواقعة التي كانت ما تزال ساخنة، حيث اثنيت على مصداقية
الاعلام السوري في تغطية وقائعها وتفاصيلها، وطالبت بالمزيد من الشفافية والمكاشفة
والاعتصام بالحقيقة الموضوعية لكي يستعيد الخطاب الاعلامي الرسمي كامل لياقته وشعبيته،
فما كان منه الا ان ابهج خاطري حين اكد ان "المصداقية" هي العنوان الابرز
للخطاب الاعلامي السوري في طوره الجديد، وان المسؤولية المهنية والوطنية العالية التي
تحلت بها وسائل الاعلام الخاصة والرسمية مؤخراً قد ضاعفت من سويتها وجماهيريتها، ليس
على الصعيد الداخلي فقط بل والعربي ايضاً، ولدينا - والقول ما زال له- نتائج استطلاعات
ميدانية سورية وعربية اجرتها وكالة مختصة ومحايدة، تثبت تزايد الاقبال على اعلامياتنا،
مقابل الاعراض عن اعلاميات الفبركة والتدجيل والتضليل·
ظهر اليوم التالي، اصطحبني الرفيق سامي العطاري، عضو القيادة
القومية لحزب البعث، الى لقاء قائد عسكري مرموق يعايش الازمة السورية يوماً بيوم، ويتعامل
معها على اتساع الوطن، ويتابع اخطر مفاصلها وادق تفاصيلها، ويرتبط مع الرفيق العطاري
بصداقة قوية سمحت له ان يضعنا، بكثير من الصراحة والوضوح، في صورة تطورات هذه الازمة
وميكانزماتها ومآلاتها المتوقعة في المستقبل القريب جداً·
لقد وجدت هذا القائد الشجاع مرحاً ومنشرحاً ومستبشراً خيراً،
وشديد الثقة بالواقع والمتوقع على اكثر من صعيد داخلي وخارجي·· سياسي وعسكري، خصوصاً
فيما يتعلق باندحار اطراف التدخل والتآمر الخارجية، وانهيار قوى المسلحين والمتسللين
الارهابيين الذين باتوا يستسلمون للجيش السوري بالعشرات يومياً، ولكن معظم ما جرى على
لسانه ليس قابلاً للنشر حالياً، ربما لانه ينضوي تحت عنوان "المجالس امانات"·
مساء ذلك اليوم، سعدت بلقاء الاخ العزيز زياد النخالة، نائب
الامين العام لحركة الجهاد الاسلامي الذي استقبلني في احدى ضواحي دمشق، واستضافني لاكثر
من ثلاث ساعات تحدث فيها مطولاً حول المقاومة والتهدئة والطموحات الجهادية القريبة
والبعيدة، ثم ما لبث ان عرض امامي مشاهد فيديو مدهشة لمسيرة التطور الصاروخي لدى حركة
الجهاد، ولم ينس وهو يودعني على تخوم الساعة العاشرة ليلاً، ان يؤكد اصرار قيادة الحركة
على البقاء الدائم في العرين الشآمي المهيب·
لا معنى لزيارة دمشق، دون لقاء مايسترو الدبلوماسية السورية،
ونائب رئيس الجمهورية، الاستاذ فاروق الشرع·· ذلك لانه "علامة فارقة ومشرقة"
في دفتر الاحوال السورية، وتجمعني به مودة خاصة وصداقة قديمة، ناهيك عما بلغني عنه
منذ اليوم الاول لوصولي عاصمة الامويين، حيث أسر اليّ الرفيق سامي العطاري، ان الاستاذ
الشرع قد ابلغ لافروف، وزير الخارجية الروسي، والجنرال فرادكوف، مدير المخابرات الخارجية
الروسية اللذين زارا دمشق قبل نحو شهر، انه يرفض رفضاً تاماً اية مبادرة عربية او اجنبية
تقضي بتسلمه مقاليد الامور في الدولة السورية بديلاً عن الرئيس الاسد، وان وطنيته وبعثيته
وعروبته تأبى عليه بالمطلق، الامتثال لغير ارادته الذاتية، والاصغاء لغير صوت الشعب
العربي السوري، والخروج على نظام وطني وقومي هو احد اركانه واقطابه·
ظهيرة اليوم الثالث لزيارتي، تكرم "ابو مضر" باستقبالي
لاكثر من ساعة، رغم ان ذلك اليوم صادف "عيد الام" الذي تعطل فيه الدوائر
الرسمية السورية، وقد استفاض هذا السياسي المحنك والمسكون بخبرة دبلوماسية عربية وعالمية
هائلة، في تحليل وتعليل الاوضاع الحالية، والمستجدات الاحتمالية، والسيناريوهات المواتية
والمعاكسة، ثم خلص بلهجة مفعمة بالتفاؤل الى ان الاصعب قد مضى وانقضى، وان القادم هو
الاسهل والافضل·
قبل ختام اللقاء سألته عما أسر لي به الرفيق العطاري، وابديت
له اعجابي بهذا الموقف النضالي الحكيم·· اطرق برهة قصيرة، ثم رفع رأسه وقال مبتسماً
: وهل كنت تتوقع مني خلاف هذا الموقف والتصرف ؟؟
وعليه، وبعد مروحة واسعة من اللقاءات والحوارات مع كوكبة
من كبار المسؤولين المرابطين والسابقين، وعقب الوقوف على انضج الاراء وارقى مستويات
الاداء الرسمي والحكومي في هذه المرحلة القاسية، تمنيت لو ان رجالات الدولة السورية
كانوا قد عملوا بمثل هذه العزيمة القوية، والقريحة النقية والابداعية، والروحية المتفتحة
والايجابية، منذ عامين او ثلاثة او حتى خمسة، فقد كان من شأن ذلك ان يسحب كل ذرائع
الازمة الراهنة، وان يرفع سوريا الى مصاف الدول المتقدمة·· ولكن قديماً قيل :
"ان تصل متأخراً خير من ان لا تصل ابداً"، ذلك لان سوريا الجديدة قادمة لا
محالة·
الامر الوحيد الذي ازعجني واخذ بخناقي طوال هذه النزهة الجميلة،
هو مصير ديجول هذا الزمان، الدكتور برهان غليون، واعضاء مجلسه الاسطمبولي الذين استطابوا
الشهرة، واعتادوا على الاضواء والفضائيات والمؤتمرات، ودخلوا في سلسلة من المضاربات
والعطاءات والمقاولات السياسية، وراهنوا على حمد وسعود واردوغان ورابعهم العرعور، قبل
ان يكتشفوا انهم قد شيدوا قصوراً على الرمال، وباتوا قاب قوسين او ادنى من بطالة سياسية
قاتلة، وغربة اعلامية ثقيلة لن تلبث ان تحيلهم الى كهوف النسيان·· وان غداً لناظره
قريب·
وبعد·· هذه بضع لقطات ولوحات من سوريا الحقيقية التي عاينتها
بنفسي، وشاهدتها على مدى ثلاثة ايام بام عيني·· فمن شاء فليؤمن بمصداقيتي، ومن شاء
فليستنكر روايتي، ويتابع اللهاث خلف فضائيات المبالغة والتهويل وتحويل الحبة الى قبة،
واختلاق سوريا الوهمية والافتراضية التي لا وجود لها الا في مخيلات الحشاشين والغشاشين
والمرجفين الذين في قلوبهم مرض !!
فن المقاربة والمباعدة
كل من يقترب مني يغتني ثم يهجرني
(الشاعر ريلكه)
الاقتراب من الآخرين، والابتعاد عنهم، ثنائية اجتماعية دقيقة
للغاية، بل لعلها معادلة صعبة تتطلب الكثير من الفطنة والحذر واللياقة وحسن التصرف
والمفاضلة والتقدير، نظراً لما لها من تأثيرات مباشرة وانعكاسات يومية على حياة الناس·
كيف تقترب من هذا الفرد او تبتعد عنه ؟؟ وكم هي المسافة التي
تضعها بينك وبين القريب او الغريب ؟؟ وما هو المقياس الذي تعتمده في تحديد مسافة الاقتراب
ودرجة الابتعاد ؟؟ وهل تمارس عملية الاقتراب والابتعاد بشكل تدريجي مدروس ام دفعة واحدة
؟؟
هذه الاسئلة وغيرها تكاد تكون مطروحة عملياً وتلقائياً على
كل فرد اجتماعي، سواء طرحها على نفسه عبر عقله الواعي، او انطرحت عليه عفوياً بفعل
العقل الباطن او اللاوعي الذي كثيراً ما يقود خطانا، ويحدد مسالكنا وتصرفاتنا، دون
ان نقصد او ندري·
واذا كان بناء العلاقات الاجتماعية فناً عظيماً يقتضي التحلي
بالذكاء والحنكة والخبرة، فلعل تحديد درجات المقاربة والمباعدة بين الناس، هو قمة هذا
الفن الاجتماعي وارقى الوانه ومستوياته·· ذلك لانه الفن الذي ينظم الابعاد ويضبط المسافات
بين الافراد والجماعات، فيحول دون الاقتراب الى حد الاحتكاك، ودون الابتعاد الى درجة
القطيعة او حتى العداوة·
في غياب هذا الفن تضطرب العلاقات، وتتداخل الابعاد والمسافات،
ويختفي "المايسترو" او "ضابط الايقاع" الذي يوجه الحركات والسكنات
داخل التجمعات والمجتمعات، بل داخل الاسرة الواحدة، والدائرة الحميمة الضيقة، والرابطة
الاهلية الخاصة، شأن رابطة القرابة او الصداقة او الزمالة او الجيرة او الشراكة في
العمل الحزبي والرفاقي·
فكم من زواج انتهى الى الطلاق، ومن قرابة آلت الى القطيعة،
ومن صداقة تحولت الى خصومة، ومن زمالة انحدرت الى درك المماحكة، ومن شراكة كان ختامها
زفتاً وليس مسكاً·· كل ذلك جراء الخطأ في حسابات المقاربة والمباعدة، وكميات الشك والثقة،
ودرجات الالفة والكلفة، ومتواليات الفعل ورد الفعل، ومعايير الانفتاح والانغلاق·· الخ·
ما اكثر حالات الحب والصداقة والقرابة والجوار التي ابتدأت
هنية رضية، وتصاعدت بمرور الايام نحو المزيد من المودة والطمأنينة والثقة، ولكن اختلال
ميزان التقارب والتباعد ما لبث ان اوهن وشائجها، واضعف روابطها، قبل ان يجهز عليها،
اما بفعل الضيق والاختناق في حال التقارب حد التلاصق، او بتأثير الفتور والاهمال في
حال التباعد والتدابر والجفاء·
ومن طريف ما يروى بهذا الصدد، ان مجموعة من القنافذ التي
اشتد بها البرد ذات ليلة شتائية، قد حاولت التلاصق فيما بينها طلباً للدفء الجماعي،
غير انها سرعان ما اضطرت للتباعد جراء وخز اشواك كل واحد منها في جسد جاره، الا ان
شدة الزمهرير قد ارغمتها على التقارب مرة اخرى، ولكن ضمن قياسات جديدة تحقق لها الدفء
من جهة، وتحول دون وخز اشواكها من جهة اخرى·· وهكذا فقد تقاربت دون ان تتلاصق، وتباعدت
دون ان تتفارق·
لقد حفل التراث العربي بالكثير من الحكم والامثال المتعلقة
بثنائية الاقتراب والابتعاد، فقد قيل : "شدة القرب حجاب"، بمعنى ان الاقتراب
الشديد غالباً ما يحول دون الرؤية السليمة والحكم الصائب·· وقيل : "زر غباً تزدد
حباً"، بمعنى ان الزيارات القصيرة والخفيفة الظل تؤدي الى زيادة الاشواق، وتوطيد
اواصر المحبة·· كما قيل في الامثال الشعبية : "البعيد عن العين، بعيد عن القلب"،
وهو ما يعني ان طول مسافة البعد والفراق كثيراً ما يقود الى الهجران والنسيان، وفي
هذا المعنى قال الامام علي : "اياك والجفاء، فانه يفسد الاخاء"·
وعليه·· فليس امام الانسان المدني بطبعه، والاجتماعي بطبيعته،
الا ان يجهد كل الجهد لتنظيم علاقاته مع الآخرين، وضبط عملية المقاربة والمباعدة بينه
وبينهم بدقة، وهندستها بمهارة وفن وذكاء اجتماعي، وفقاً لقياسات ذاتية وموضوعية مناسبة
من شأنها توفير ارقى حالات التوازن بين شقي هذه المعادلة، والحيلولة دون طغيان احدهما
على الآخر·
لا جدال ان للسن والذهن والخبرة والتجربة والثقافة دوراً
كبيراً في ترسيم حدود المباعدة والمقاربة، ووضع هذه الثنائية، التي تكاد تشكل امتحاناً
عملياً ويومياً، ضمن شروط نجاحها وادامتها والارتياح اليها·· غير ان فن الفراسة يتقدم
على كل ما عداه بخصوص ادارة هذه الثنائية التي تتطلب الكثير من الكفاءة والمهارة في
قراءة نفوس الآخرين، واستكناه دخائلهم واعماقهم، واستكشاف اكبر قدر مما يجول في قلوبهم
وعقولهم، قبل تحديد مسافات التقارب معهم والتباعد عنهم·
لقد تبوأ فن الفراسة والتوسم مكانة مرموقة في التاريخ العربي
والانساني، نظراً لما له من اهمية كبيرة في كشف حقائق الاخرين وطبائعهم الخفية، واختيار
نوع العلاقة معهم، واجتناب الكثير من غدرهم وخداعهم ومفاجآتهم·· ومن هنا جاء الحديث
الشريف : "اتقوا فراسة المؤمن، لانه ينظر بعين الله"، فيما قال نابليون
: "لا انتظر فعل الشرير لكي اعرف حقيقته، بل اقرؤها في لحظة، ومن اول نظرة"،
اما الشاعر المتنبي فيقول ··
أُصادقُ نفسَ المرءِ من قبلِ جسمهِ
واعرفها من فعلهِ والتكلمِ
بالفراسة نستطيع الحكم بشكل تقريبي على الآخرين، والاقبال
عليهم او الادبار عنهم، والتعاطي بمفردات الثقة او اللا ثقة معهم، وفتح مغاليق القلوب
والصدور لهم او اقفالها دونهم، خاصة وان عالم اليوم مفعم بالمرائين والمزيفين والمخادعين
الذين يعلنون خلاف ما يبطنون، ويقولون عكس ما يفعلون، ويدعون الصداقة والمودة والاخاء
فيما يضمرون الحقد والضغينة والعداء، ويصح فيهم قول احد المخدوعين والمتشائمين :
"حين يقول لك احدهم انه يحبك مثل اخيه، فتذكر ما فعله قابيل في اخيه هابيل"·
غير اننا نستطيع بالفراسة ايضاً، ان نكتشف الكثير من الشرفاء،
ونصطفي العديد من الاصدقاء، ونسعد برفقة الطف واظرف الندماء، ونتقارب بكل امان واطمئنان
مع كرام الناس والانقياء والعظماء الذين قال فيهم كوفتيز هاييم : "كلما اقتربت
من العظيم، ظهر لك اعظم"·
اخيراً، ومهما تذبذب بندول المقاربة والمباعدة بيننا وبين
الآخرين، فليس امامنا - اخلاقياً - سوى الالتزام باحكام دستور اجتماعي جميل، وضعه الامام
الشافعي في قالب شعري بليغ يلخصه بيت واحد، ضمن قصيدة عصماء، يقول··
وعاشرْ بمعروفٍ وسامحْ مَن اعتدى
وفارقْ، ولكن بالتي هيَ احسنُ
اخبار البلد - بفعل التحشيش الاعلامي الذي تبثه فضائيات الفتنة على مدار الساعة، انقسمت سوريا على اثنين، وتشعبت الى سوريتين·· سوريا الحقيقية، وسوريا الافتراضية·· سوريا القائمة على ارض الواقع، وسوريا الماثلة في عالم الخيال·· سوريا الراسخة فوق خرائط الوجود، وسوريا المكتوبة بحروف الخرافة والوهم والسراب·
من بعيد، وبتأثير الضخ الاعلامي المغرض، تبدو سوريا الافتراضية كما لو انها قطعة من الجحيم، وبقعة ملطخة بالدم والبارود، وبرية موحشة ومحكومة بالجوع والهلع، وساحة مستباحة يعربد فيها كل من هب ودب، وسفينة مترنحة يتهددها الغرق وتضرب على غير هدى·
لقد استمات سماسرة التهويش والتشويش والحرب الدعائية في انتاج سوريا الوهمية، وتسويقها لدى الرأي العام العربي والعالمي، واظهارها على غير واقعها وحقيقتها·· مستهدفين - كما قال الرئيس الروسي ميدفيديف - "التلاعب بالرٌّأي العام لتحقيق غايات سياسية معينة، وتلويث وعي الناس"·· غير انهم خسروا مصداقيتهم امام24 مليون سوري يعرفون بدقة ما يجري في بلادهم، اضعاف ما احرزوه من نجاحات خارجية مؤقتة وسريعة العطب·
طوال الاسبوع الماضي كنت ضيفاً على قاسيون، وسائحاً يذرع احياء دمشق ويتصفح دفاتر الياسمين·· قصدتها مبكراً على متن السيارة التي تنقل نسخ "المجد" المعدة للتوزيع في الديار السورية·· كان الصباح ندياً وعطرياً، وكان الطريق الدولي الواصل ما بين ربة عمون وعاصمة الامويين محروساً بازهار آذار التي تحف به من الجانبين، ومفعماً بحركة السيارات المنسابة بامان واطمئنان ذهاباً واياباً، رغم ان سلطان الوقت كان يتكئ آنذاك على عقارب الساعة السابعة والنصف صباحاً·
صبيحة وصولي عاصمة بلاد الشام، كانت فضائيات التخبيص الاعلامي تتحدث عن معركة ضارية اشتعلت ليلاً في حي المزة، وسقط فيها ثمانون قتيلاً بالتمام والكمال·· من فوري هاتفت الصديق الدكتور محمد سلمان، وزير الاعلام الاسبق الذي يقع مكتبه قرب مكان الاشتباك، لغرض الاطمئنان عليه وليس الاستفسار عما حدث، ولكن ضحكته المعهودة رنت في اذني قبل ان يقول لي بظرفه الادبي : ما اعرفه انك ممن تستهويهم البلاغة وليس المبالغة، فكيف تصدق مثل هذه الفضائيات التي افلست وفقدت شرف المهنة ؟؟ عموماً، سارسل لك سيارتي كي تحضرك من الفندق، ولسوف تقف بنفسك على حقيقة الامر، لان مكان الاشتباك لا يبعد عن مكتبي اكثر من مئتي متر·
وهكذا كان، فقد ذهبنا الى مقر الاشتباك الذي وقع في عمارة سكنية متعددة الشقق، ومؤلفة من خمسة طوابق، وهناك استمعنا الى اقوال الساكنين الذين اكدوا انهم قد ابلغوا رجال الامن عن شكوكهم في ثلاثة شبان ملتحين عمدوا الى استئجار احدى شقق البناية، وحين حضرت احدى المجموعات الامنية لاستجلاء الامر، عاجلها هؤلاء الشباب باطلاق النار، وقد ردت عليهم بالمثل حيث استمر تبادل اطلاق النار الى حين مقتل اثنين من الشبان (احدهما غير عربي) واستسلام المسلح الثالث، في حين استشهد اثنان من المجموعة الامنية·· وهذا بالضبط ما كانت قد اعلنته وسائل الاعلام السورية·
طيب، من اين جاءت فضائيات التهليس، وصحافة التضليل والتدليس الورقية والالكترونية بالثمانين قتيلاً ؟؟ وهل يمكن لسكان تلك العمارة، وابناء حي المزة وحتى دمشق كلها ان يصدقوا زيف هذه الاعلاميات، ويكذبوا حقيقة ما رأوه بام العين ؟؟ ام ان هذه هي سوريا الافتراضية التي تنفثها انفاس التحشيش الاعلامي ؟؟
في مساء ذات اليوم، ولدى التقائي بالاخ الدكتور عدنان محمود، وزير الاعلام الرابض على مدار الساعة في مبنى هيئة الاذاعة والتلفزيون المطل على ساحة الامويين، تداولنا في شأن هذه الواقعة التي كانت ما تزال ساخنة، حيث اثنيت على مصداقية الاعلام السوري في تغطية وقائعها وتفاصيلها، وطالبت بالمزيد من الشفافية والمكاشفة والاعتصام بالحقيقة الموضوعية لكي يستعيد الخطاب الاعلامي الرسمي كامل لياقته وشعبيته، فما كان منه الا ان ابهج خاطري حين اكد ان "المصداقية" هي العنوان الابرز للخطاب الاعلامي السوري في طوره الجديد، وان المسؤولية المهنية والوطنية العالية التي تحلت بها وسائل الاعلام الخاصة والرسمية مؤخراً قد ضاعفت من سويتها وجماهيريتها، ليس على الصعيد الداخلي فقط بل والعربي ايضاً، ولدينا - والقول ما زال له- نتائج استطلاعات ميدانية سورية وعربية اجرتها وكالة مختصة ومحايدة، تثبت تزايد الاقبال على اعلامياتنا، مقابل الاعراض عن اعلاميات الفبركة والتدجيل والتضليل·
ظهر اليوم التالي، اصطحبني الرفيق سامي العطاري، عضو القيادة القومية لحزب البعث، الى لقاء قائد عسكري مرموق يعايش الازمة السورية يوماً بيوم، ويتعامل معها على اتساع الوطن، ويتابع اخطر مفاصلها وادق تفاصيلها، ويرتبط مع الرفيق العطاري بصداقة قوية سمحت له ان يضعنا، بكثير من الصراحة والوضوح، في صورة تطورات هذه الازمة وميكانزماتها ومآلاتها المتوقعة في المستقبل القريب جداً·
لقد وجدت هذا القائد الشجاع مرحاً ومنشرحاً ومستبشراً خيراً، وشديد الثقة بالواقع والمتوقع على اكثر من صعيد داخلي وخارجي·· سياسي وعسكري، خصوصاً فيما يتعلق باندحار اطراف التدخل والتآمر الخارجية، وانهيار قوى المسلحين والمتسللين الارهابيين الذين باتوا يستسلمون للجيش السوري بالعشرات يومياً، ولكن معظم ما جرى على لسانه ليس قابلاً للنشر حالياً، ربما لانه ينضوي تحت عنوان "المجالس امانات"·
مساء ذلك اليوم، سعدت بلقاء الاخ العزيز زياد النخالة، نائب الامين العام لحركة الجهاد الاسلامي الذي استقبلني في احدى ضواحي دمشق، واستضافني لاكثر من ثلاث ساعات تحدث فيها مطولاً حول المقاومة والتهدئة والطموحات الجهادية القريبة والبعيدة، ثم ما لبث ان عرض امامي مشاهد فيديو مدهشة لمسيرة التطور الصاروخي لدى حركة الجهاد، ولم ينس وهو يودعني على تخوم الساعة العاشرة ليلاً، ان يؤكد اصرار قيادة الحركة على البقاء الدائم في العرين الشآمي المهيب·
لا معنى لزيارة دمشق، دون لقاء مايسترو الدبلوماسية السورية، ونائب رئيس الجمهورية، الاستاذ فاروق الشرع·· ذلك لانه "علامة فارقة ومشرقة" في دفتر الاحوال السورية، وتجمعني به مودة خاصة وصداقة قديمة، ناهيك عما بلغني عنه منذ اليوم الاول لوصولي عاصمة الامويين، حيث أسر اليّ الرفيق سامي العطاري، ان الاستاذ الشرع قد ابلغ لافروف، وزير الخارجية الروسي، والجنرال فرادكوف، مدير المخابرات الخارجية الروسية اللذين زارا دمشق قبل نحو شهر، انه يرفض رفضاً تاماً اية مبادرة عربية او اجنبية تقضي بتسلمه مقاليد الامور في الدولة السورية بديلاً عن الرئيس الاسد، وان وطنيته وبعثيته وعروبته تأبى عليه بالمطلق، الامتثال لغير ارادته الذاتية، والاصغاء لغير صوت الشعب العربي السوري، والخروج على نظام وطني وقومي هو احد اركانه واقطابه·
ظهيرة اليوم الثالث لزيارتي، تكرم "ابو مضر" باستقبالي لاكثر من ساعة، رغم ان ذلك اليوم صادف "عيد الام" الذي تعطل فيه الدوائر الرسمية السورية، وقد استفاض هذا السياسي المحنك والمسكون بخبرة دبلوماسية عربية وعالمية هائلة، في تحليل وتعليل الاوضاع الحالية، والمستجدات الاحتمالية، والسيناريوهات المواتية والمعاكسة، ثم خلص بلهجة مفعمة بالتفاؤل الى ان الاصعب قد مضى وانقضى، وان القادم هو الاسهل والافضل·
قبل ختام اللقاء سألته عما أسر لي به الرفيق العطاري، وابديت له اعجابي بهذا الموقف النضالي الحكيم·· اطرق برهة قصيرة، ثم رفع رأسه وقال مبتسماً : وهل كنت تتوقع مني خلاف هذا الموقف والتصرف ؟؟
وعليه، وبعد مروحة واسعة من اللقاءات والحوارات مع كوكبة من كبار المسؤولين المرابطين والسابقين، وعقب الوقوف على انضج الاراء وارقى مستويات الاداء الرسمي والحكومي في هذه المرحلة القاسية، تمنيت لو ان رجالات الدولة السورية كانوا قد عملوا بمثل هذه العزيمة القوية، والقريحة النقية والابداعية، والروحية المتفتحة والايجابية، منذ عامين او ثلاثة او حتى خمسة، فقد كان من شأن ذلك ان يسحب كل ذرائع الازمة الراهنة، وان يرفع سوريا الى مصاف الدول المتقدمة·· ولكن قديماً قيل : "ان تصل متأخراً خير من ان لا تصل ابداً"، ذلك لان سوريا الجديدة قادمة لا محالة·
الامر الوحيد الذي ازعجني واخذ بخناقي طوال هذه النزهة الجميلة، هو مصير ديجول هذا الزمان، الدكتور برهان غليون، واعضاء مجلسه الاسطمبولي الذين استطابوا الشهرة، واعتادوا على الاضواء والفضائيات والمؤتمرات، ودخلوا في سلسلة من المضاربات والعطاءات والمقاولات السياسية، وراهنوا على حمد وسعود واردوغان ورابعهم العرعور، قبل ان يكتشفوا انهم قد شيدوا قصوراً على الرمال، وباتوا قاب قوسين او ادنى من بطالة سياسية قاتلة، وغربة اعلامية ثقيلة لن تلبث ان تحيلهم الى كهوف النسيان·· وان غداً لناظره قريب·
وبعد·· هذه بضع لقطات ولوحات من سوريا الحقيقية التي عاينتها بنفسي، وشاهدتها على مدى ثلاثة ايام بام عيني·· فمن شاء فليؤمن بمصداقيتي، ومن شاء فليستنكر روايتي، ويتابع اللهاث خلف فضائيات المبالغة والتهويل وتحويل الحبة الى قبة، واختلاق سوريا الوهمية والافتراضية التي لا وجود لها الا في مخيلات الحشاشين والغشاشين والمرجفين الذين في قلوبهم مرض !!
فن المقاربة والمباعدة
كل من يقترب مني يغتني ثم يهجرني
(الشاعر ريلكه)
الاقتراب من الآخرين، والابتعاد عنهم، ثنائية اجتماعية دقيقة للغاية، بل لعلها معادلة صعبة تتطلب الكثير من الفطنة والحذر واللياقة وحسن التصرف والمفاضلة والتقدير، نظراً لما لها من تأثيرات مباشرة وانعكاسات يومية على حياة الناس·
كيف تقترب من هذا الفرد او تبتعد عنه ؟؟ وكم هي المسافة التي تضعها بينك وبين القريب او الغريب ؟؟ وما هو المقياس الذي تعتمده في تحديد مسافة الاقتراب ودرجة الابتعاد ؟؟ وهل تمارس عملية الاقتراب والابتعاد بشكل تدريجي مدروس ام دفعة واحدة ؟؟
هذه الاسئلة وغيرها تكاد تكون مطروحة عملياً وتلقائياً على كل فرد اجتماعي، سواء طرحها على نفسه عبر عقله الواعي، او انطرحت عليه عفوياً بفعل العقل الباطن او اللاوعي الذي كثيراً ما يقود خطانا، ويحدد مسالكنا وتصرفاتنا، دون ان نقصد او ندري·
واذا كان بناء العلاقات الاجتماعية فناً عظيماً يقتضي التحلي بالذكاء والحنكة والخبرة، فلعل تحديد درجات المقاربة والمباعدة بين الناس، هو قمة هذا الفن الاجتماعي وارقى الوانه ومستوياته·· ذلك لانه الفن الذي ينظم الابعاد ويضبط المسافات بين الافراد والجماعات، فيحول دون الاقتراب الى حد الاحتكاك، ودون الابتعاد الى درجة القطيعة او حتى العداوة·
في غياب هذا الفن تضطرب العلاقات، وتتداخل الابعاد والمسافات، ويختفي "المايسترو" او "ضابط الايقاع" الذي يوجه الحركات والسكنات داخل التجمعات والمجتمعات، بل داخل الاسرة الواحدة، والدائرة الحميمة الضيقة، والرابطة الاهلية الخاصة، شأن رابطة القرابة او الصداقة او الزمالة او الجيرة او الشراكة في العمل الحزبي والرفاقي·
فكم من زواج انتهى الى الطلاق، ومن قرابة آلت الى القطيعة، ومن صداقة تحولت الى خصومة، ومن زمالة انحدرت الى درك المماحكة، ومن شراكة كان ختامها زفتاً وليس مسكاً·· كل ذلك جراء الخطأ في حسابات المقاربة والمباعدة، وكميات الشك والثقة، ودرجات الالفة والكلفة، ومتواليات الفعل ورد الفعل، ومعايير الانفتاح والانغلاق·· الخ·
ما اكثر حالات الحب والصداقة والقرابة والجوار التي ابتدأت هنية رضية، وتصاعدت بمرور الايام نحو المزيد من المودة والطمأنينة والثقة، ولكن اختلال ميزان التقارب والتباعد ما لبث ان اوهن وشائجها، واضعف روابطها، قبل ان يجهز عليها، اما بفعل الضيق والاختناق في حال التقارب حد التلاصق، او بتأثير الفتور والاهمال في حال التباعد والتدابر والجفاء·
ومن طريف ما يروى بهذا الصدد، ان مجموعة من القنافذ التي اشتد بها البرد ذات ليلة شتائية، قد حاولت التلاصق فيما بينها طلباً للدفء الجماعي، غير انها سرعان ما اضطرت للتباعد جراء وخز اشواك كل واحد منها في جسد جاره، الا ان شدة الزمهرير قد ارغمتها على التقارب مرة اخرى، ولكن ضمن قياسات جديدة تحقق لها الدفء من جهة، وتحول دون وخز اشواكها من جهة اخرى·· وهكذا فقد تقاربت دون ان تتلاصق، وتباعدت دون ان تتفارق·
لقد حفل التراث العربي بالكثير من الحكم والامثال المتعلقة بثنائية الاقتراب والابتعاد، فقد قيل : "شدة القرب حجاب"، بمعنى ان الاقتراب الشديد غالباً ما يحول دون الرؤية السليمة والحكم الصائب·· وقيل : "زر غباً تزدد حباً"، بمعنى ان الزيارات القصيرة والخفيفة الظل تؤدي الى زيادة الاشواق، وتوطيد اواصر المحبة·· كما قيل في الامثال الشعبية : "البعيد عن العين، بعيد عن القلب"، وهو ما يعني ان طول مسافة البعد والفراق كثيراً ما يقود الى الهجران والنسيان، وفي هذا المعنى قال الامام علي : "اياك والجفاء، فانه يفسد الاخاء"·
وعليه·· فليس امام الانسان المدني بطبعه، والاجتماعي بطبيعته، الا ان يجهد كل الجهد لتنظيم علاقاته مع الآخرين، وضبط عملية المقاربة والمباعدة بينه وبينهم بدقة، وهندستها بمهارة وفن وذكاء اجتماعي، وفقاً لقياسات ذاتية وموضوعية مناسبة من شأنها توفير ارقى حالات التوازن بين شقي هذه المعادلة، والحيلولة دون طغيان احدهما على الآخر·
لا جدال ان للسن والذهن والخبرة والتجربة والثقافة دوراً كبيراً في ترسيم حدود المباعدة والمقاربة، ووضع هذه الثنائية، التي تكاد تشكل امتحاناً عملياً ويومياً، ضمن شروط نجاحها وادامتها والارتياح اليها·· غير ان فن الفراسة يتقدم على كل ما عداه بخصوص ادارة هذه الثنائية التي تتطلب الكثير من الكفاءة والمهارة في قراءة نفوس الآخرين، واستكناه دخائلهم واعماقهم، واستكشاف اكبر قدر مما يجول في قلوبهم وعقولهم، قبل تحديد مسافات التقارب معهم والتباعد عنهم·
لقد تبوأ فن الفراسة والتوسم مكانة مرموقة في التاريخ العربي والانساني، نظراً لما له من اهمية كبيرة في كشف حقائق الاخرين وطبائعهم الخفية، واختيار نوع العلاقة معهم، واجتناب الكثير من غدرهم وخداعهم ومفاجآتهم·· ومن هنا جاء الحديث الشريف : "اتقوا فراسة المؤمن، لانه ينظر بعين الله"، فيما قال نابليون : "لا انتظر فعل الشرير لكي اعرف حقيقته، بل اقرؤها في لحظة، ومن اول نظرة"، اما الشاعر المتنبي فيقول ··
أُصادقُ نفسَ المرءِ من قبلِ جسمهِ
واعرفها من فعلهِ والتكلمِ
بالفراسة نستطيع الحكم بشكل تقريبي على الآخرين، والاقبال عليهم او الادبار عنهم، والتعاطي بمفردات الثقة او اللا ثقة معهم، وفتح مغاليق القلوب والصدور لهم او اقفالها دونهم، خاصة وان عالم اليوم مفعم بالمرائين والمزيفين والمخادعين الذين يعلنون خلاف ما يبطنون، ويقولون عكس ما يفعلون، ويدعون الصداقة والمودة والاخاء فيما يضمرون الحقد والضغينة والعداء، ويصح فيهم قول احد المخدوعين والمتشائمين : "حين يقول لك احدهم انه يحبك مثل اخيه، فتذكر ما فعله قابيل في اخيه هابيل"·
غير اننا نستطيع بالفراسة ايضاً، ان نكتشف الكثير من الشرفاء، ونصطفي العديد من الاصدقاء، ونسعد برفقة الطف واظرف الندماء، ونتقارب بكل امان واطمئنان مع كرام الناس والانقياء والعظماء الذين قال فيهم كوفتيز هاييم : "كلما اقتربت من العظيم، ظهر لك اعظم"·
اخيراً، ومهما تذبذب بندول المقاربة والمباعدة بيننا وبين الآخرين، فليس امامنا - اخلاقياً - سوى الالتزام باحكام دستور اجتماعي جميل، وضعه الامام الشافعي في قالب شعري بليغ يلخصه بيت واحد، ضمن قصيدة عصماء، يقول··
وعاشرْ بمعروفٍ وسامحْ مَن اعتدى
وفارقْ، ولكن بالتي هيَ احسنُ