هزيمة الحداثة في سورية

يبدو شيءٌ من الملوحة في فرحة كثيرين من أصدقائنا المثقفين السوريين، من أهل الأدب والنقد والفنون والفكر، بانتهاء نظام عائلة الأسد في بلدهم، ذلك أن المشهد الذي اشتهوه عقوداً، ليتصدّر اليوم التالي لإسقاط (أو سقوط) هذا النظام ليس الذي رأوه، ورأيناه معهم، في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري. شبّانٌ ملتحون، يتمنطقون بواريد ورشّاشاتٍ ومسدّساتٍ، ينتسبون إلى تنظيمٍ، إسلاميٍّ جهاديٍّ سلفي، مسلّح، يُصنّف إرهابياً، خرج من معطف "داعش"، ثقافةُ عناصره ماضوية، يستلهمون التفكير القاعدي إيّاه. يتزعّمهم رجلٌ لم يُكمل دراسته الجامعية، يبدو طموحاً، وهادئاً، سمتُه القياديٌّ ظاهر، كما نزعتُه المُحاربة. يبدو، في قناعاته، على يمين من انشقّ عنهما، أيمن الظواهري ثم أبو بكر البغدادي. وتفاصيلُ كهذه، على ما فيها من إيجازٍ، مخلٍّ ربما، كافيةٌ ليشعر المثقفون السوريون، الذين ناهضوا الأسد، وتوزّعوا في المغتربات والمهاجر، ومن بقوا في البلد، بمقادير من الحرج، فلم يكونوا، وهم يُنتجون إبداعاتهم وفنونهم واجتهاداتهم الفكرية، وهم يتوافقون ويختلفون، يتصوّرون أن جهاديّاً قاعديّاً سيتسلم بعد بشّار الأسد سورية، بلد نزار قباني ومحمّد الماغوط وصادق جلال العظم، فاتحاً، منتصراً بالغلبة والسلاح. هذا ليس مُفرحاً، في أبسط تعبير، بل مقلقٌ، وربما يبعث على التطيّر، سيّما وأن السوريين في الأسبوع الأول لتحرّرهم مبتهجون أيضاً بما احتاجوا أن يسمعوها من الفاتح وصحبِه من "تطميناتٍ" بشأن الأقليات وحرية اللباس والعبادة والنظام العام... .

لا أظنّني أتورّط في مجازفةٍ غير محسوبة، لو ذهبتُ هنا إلى أن سورية هي البلد الذي صدرت من مثقّفيه، في بلدهم وخارجه، أكثرُ التنظيرات والأفكار و"السجالات" العربية في الحداثة، بعناوينها في الآداب والفنون والفكر السياسي. وقد التقى مُنتجهم هذا، سيّما في شقّه المتعلق بالأدب، مع التجارب الرائدة والمؤسّسة في العراق ولبنان. وإذا قال قائلٌ إن أصحاب هذا الجهد الثقافي قلّةٌ في مجتمعهم، فلا يعوّل على تأثيرٍ جوهريٍّ لهم، فالتعقيبُ إن من بديهيّ البديهيّات أن يكون المشتغلون بهذه الهموم قلّة، كما في كل شعوب الأرض، ولا يؤاخَذون على حالهم "الطبيعي" هذا. أما عن مدى التأثير الذي أحدثوه، فليس صحيحاً أنه محدود، سيّما في مرحلةٍ عربيةٍ انطوت، فقد كانت الحداثة في صدارة مشاغل التربويين والسياسيين وأهل الإدارة والتعليم الجامعي والعمل المؤسّسي، بفعل الاحتكاك القويِّ مع الغرب وتأثيراته في بِنياتٍ عميقةٍ وسطحية، وبفعل خيارات بعض نخبٍ في غير سلطةٍ عربيةٍ. بالتوازي مع نضالاتٍ عريضةٍ من أجل الديمقراطية والتمدّن والتحديث والحرّيات العامة، ووجِه غيرُ قليلٍ منها بتربّص السلطات، وقمعها وضربها. على أن تشخيص لوحة هذا كله، وتفاصيل الاشتباك في غضونها بين قوىً وتمثيلاتٍ تدافعت، قوميةٍ ويساريةٍ وغيرهما، يحتاج شرحاً، عويصاً ربما، ليس هنا مقامُه. ولكن، في الوسع الإيجاز هنا إن هذا التشخيص سابقٌ للنفوذ الذي أحرزه الخطاب الإسلامي، بتدرّجاته التقليدية والمغلقة، والأخرى التي شقّت مساراتٍ منفتحةً على التعايش مع المُغاير والمتعدّد. مع التسليم، المُسبق والباقي، بأن المجتمعات العربية، في عُمقها، متديّنة ومحافظة.

لا مكابرة. هزمت السلفيات والأصوليات، مع تنويعات الإسلام السياسي، في سورية وغيرها، مجرى الحداثة، الثقافي النخبوي والسياسي المؤسّسي والاجتماعي العام، الذي حاول أن يتموقع في الفضاء العربي، وأفلح موضعياً وبحدود. وتقدّمت مظاهر المحافظة في المجتمع، وكذا استلهام الدين في بناء قيم المقاومة ضد العدو الصهيوني ومواجهة "مؤامرات" الغرب والتغريب، وإنْ مع تسارع العمران الحضري واستخدام تقنيات التواصل الحديثة والانفتاح المهول على ما وفّرته شبكة الإنترنت من ممكناتٍ بلا حدود. لم يتراجع خطاب الحداثة ولا سرديّاته وتطلعاته، سيبقى صامداً في قنواته الخاصة، غير أنه سيزداد ارتداداً في نخبويّته وثقافويّته. وعندما يضنّ صاحب التسطير الأشهر للحداثة العربية، أدونيس، على شعبه السوري، بمفردة تهنئةٍ بانتهاء طغيان الأسد، في إطلالةٍ إعلاميةٍ له في باريس، الأربعاء الماضي، وعندما لا يرى قيمةً لتغيير النظام أمام عدم "تغيير المجتمع"، في لحظةٍ انعطافيةٍ كبرى، فإنك لا بدّ ستسأل عن جوهر الحداثة ومعناها، ناهيك عن جدواها. وفيما كان قد أشهر عدم سروره بخروج سوريين للتظاهر ضد الأسد من الجامع، فهذه "بيعةٌ" يُحرزها في الجامع الأموي رجل اللحظة زعيماً لسورية غداة فرار الأسد، فتصبح إشهاراً لهزيمةٍ كبرى للحداثة في سورية، مثّلها أدونيس أو غيره.