هشاشة اتفاق وقف النار في لبنان
ساد جدال حادّ في لبنان بشأن اتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل، الذي بوشر تطبيقه الأربعاء الماضي. من الغريب عملياً الخوض في مثل هذا النقاش، في حال كانت بنود الاتفاق الـ13 واضحة المعالم. لكنها ليست كذلك، فهي تكشّفت تباعاً، بما يكفي لتأكيد تناقضها وهشاشتها. لا يشبه اتفاق دايتون الذي أنهى الحرب في البوسنة والهرسك في عام 1995، المنبثقة من الحروب اليوغوسلافية. حتى أن الخروق الإسرائيلية بعد بدء تنفيذ الاتفاق أظهرت مدى ركاكة بنوده. يكفي أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير ماليته المتطرّف، بتسلئيل سموتريتش، وافقا عليه، لفهم حقيقة ما جرى في المفاوضات وفي التوقيع.
ليست المرّة الأولى التي يتمّ فيها إخفاء (أو تجاهل) نصوص عن الجمهور في لبنان، بل أنه دائماً ما حُكي عن "بنود سرية" في اتفاق الطائف (نسبة للمدينة السعودية) الموقّع في عام 1989، والذي أنهى الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، رغم أن "سرّية بنود محاضر الطائف" بعد مرور أكثر من 35 عاماً على توقيعه، تبدو غير سرّية. في المقابل، يحمل اتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل، في طيّاته، كل عناصر التفجير. المطلوب، ودائماً وفق الاتفاق، إنهاء وجود أي فصيل مسلح في جنوب لبنان "كبداية"، والمسألة، بطبيعة الحال، تتجاوز حزب الله إلى أحزاب وفصائل أخرى، وإن كانت أقلّ قدرة منه. ليس هذا فحسب، بل يجب حصول ذلك "في غضون 60 يوماً"، أي أن الجيش اللبناني، في 26 يناير/ كانون الثاني المقبل، يجب أن يكون قد انتشر في جنوب الليطاني، وفكّك كل البنى التحتية والمنشآت غير المرخّصة، بالتعاون مع قوة الأمم المتحدة في لبنان (يونيفيل)، ومع لجنة مشرفة على مراقبة تطبيق وقف النار، مؤلفة (حتى اللحظة) من الولايات المتحدة وفرنسا.
إذاً، لنذهب سريعاً إلى 26 يناير المقبل، في حال لم تجر إطاحة الاتفاق قبل ذلك. لنفترض أن لا شيء تبدّل على الأرض، ما الذي سيحصل، بالإضافة إلى استئناف الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على لبنان؟ هل سيبقى صوت المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين مرتفعاً، بعد بدء عهد الرئيس دونالد ترامب رسمياً في 20 يناير، مع كوكبة من الصقور في إدارته في حكم الولايات المتحدة؟ من يضمن أن جيش الاحتلال بعد "إنعاشه"، بحسب تعبير نتنياهو، سيبقى بعيداً عن الجبهة اللبنانية، في حال عدم تطبيق بنود الاتفاق؟ هل فعلاً لم تعد للبنان حلول سوى قبول اتفاق سيئ حالياً، على فرضية فرض اتفاق أسوأ، تزداد بنوده قتامةً مع كل يوم يمرّ؟
الأهم أن لا أحد من الدولة اللبنانية- لا رئيسا الحكومة ومجلس النواب، ولا معظم النواب والوزراء- قد تبرّع بتقديم شرحٍ وافٍ لبنود اتفاق وقف النار، بل اكتفوا إما بـ"تأكيد الانتصار" أو "الخسارة الحتمية". لكن ذلك يبقى ثانوياً أمام حقبة أخرى آتية، لم تعد للبنانيين فيها قدرة ولو بسيطة على التمسك باستقلالية قرارهم، عكس حديثهم عن "الاستقلال" و"السيادة".
في الواقع، للمرّة الأولى في تاريخ لبنان بعد استقلال 1943، تظهر حقيقة صنّاع السياسة اللبنانية أو "واقعيتهم"، تحديداً في كيفية تعاطيهم مع التحولات السياسية الكبرى، المتعلقة بمصير البلاد وطناً ومجتمعاً، بهذا الوضوح. يعود ذلك إلى عالم الإنترنت والإعلام، مع أنه لن يكون لذلك أثرٌ على تشكيل ردّ فعل شعبي أشبه بثورة أو انتفاضة، بل على الأرجح سيجري التعاطي بسخرية مع المسألة. وفي ذلك نقاش آخر يتعلق بالانتماء إلى الوطن اللبناني، ومفهوم هذا الانتماء بين "الشعوب اللبنانية". حتى ذلك الحين، لا يُمكن اعتبار اتفاق وقف النار "انتصاراً" للبنان، طالما أن ألغامه أكبر من قدرة البلد على تخطّيها بأقل ضرر ممكن. وحده المجنون من يعتقد بإمكانية معالجة قضية لبنانية تجاوزت عقوداً في غضون 60 يوماً.