رقبة القِطّ بين يدي "الجنايات الدولية"

لم يكن مفاجئاً قرار محكمة الجنايات الدولية توقيف مسؤوليْن إسرائيليين، على خلفية الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال في غزّة. وليس جديداً أن تباشر المحكمة اختصاصاتها القضائية بحقّ مرتكبي الجرائم ضدّ الإنسانية من دون استثناء (أشخاصاً أو دولاً بعينها). اللافت هو الاهتمام الإعلامي، وردّات الفعل الرسمية على تلك الخطوة القانونية، نظراً إلى الخصوصية التي تتمتّع بها إسرائيل في العلاقات الدولية بسلوكاتها الخارجة دائماً عن السياقات العدلية والموضوعية.


سبق للمحكمة أن أصدرت مذكّرات توقيف بحقّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقبله الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وغيرهما كثيرين من قادة دول ومسؤولين كبار. لكنّ معظم قرارات التوقيف الصادرة من المحكمة لم تنفّذ. وعلى الرغم من كثرة (وتعدّد) سوابق عدم تطبيق قرارات المحكمة بتوقيف قادة ورؤساء ومسؤولين كبار من دول عدّة، يظلّ "الاستثناء الإسرائيلي" متمايزاً، وذا طابع خاصّ به. أولاً، بسبب طوق الحماية الأميركي الذي تفرضه واشنطن تحصيناً لتلّ أبيب بمختلف الأشكال والوسائل. وثانياً، لأن إسرائيل تعتمد في شقّ جوهري من صورتها الذهنية لدى الغرب، على صورتها الذهنية نموذجاً ديمقراطياً متحضّراً وسط منطقة غنيّة بالموارد، مهمّة جيوستراتيجياً، لكنها موبوءةٌ بالتخلّف والاستبداد. ولذلك، تحرص واشنطن على الفصل الكامل بين تلّ أبيب وبقية الشرق الأوسط، وألّا توضع إسرائيل في سياق رابط مع أيّ من الأطراف المحيطة بها.

كان قرار محكمة الجنايات الدولية قد تضمّن توقيف مسؤولين قياديين من فصائل المقاومة الفلسطينية، غير أن هذا الاجتماع في قرار قضائي دولي مُستبعَد تماماً من الخطاب الإعلامي الإسرائيلي والأميركي، فضلاً عن المواقف الرسمية من الجانبَين، لتجنّب الجمع بين إسرائيل وحركات المقاومة الفلسطينية، لما يعنيه ذلك من انهيار سردية إسرائيل بشأن "الإرهاب" الفلسطيني، ووضع بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت مع يحيى السنوار في مرتبة قانونية وسياسية واحدة.
تلك هي معضلة تلّ أبيب، ليس فقط أمام العالم الغربي، الذي تدّعي أنها تجسيد مثالي لقيمه ومبادئه، لكن أيضاً أمام المواطنين الإسرائيليين المجموعين من بقاع شتى، وهم الذين يفكّر كثيرون منهم حالياً في مغادرة إسرائيل والعودة إلى بلدانهم الأصلية، على وقع افتقاد الأمن والطمأنينة وسقوط النموذج الأخلاقي المُفتعَل، الذي اختلقه مؤسّسو إسرائيل.

ومن الخطأ الدوران في فلك الجدل القانوني والإجرائي بشأن كيفية تنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية، وليس من المفيد في شيء تكرار أو تأكيد ارتكاب نتنياهو ومن حوله جرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانية، فليس القرار سوى تأكيد للمؤكّد وتأطير قانوني لواقع قائم، ووقائع تتكرّر منذ عقود. وإذ لا تملك الجنائية الدولية أدواتٍ تنفيذيةً أو وسائلَ إجبارٍ للدول على الالتزام بقراراتها، فالاكتفاء بترديدها هو إبراء للذمّة ليس إلّا، وكأنّ العالم بذلك قد فعل ما يتوجّب عليه، وكفى!
لا يعني قرار المحكمة الدولية شيئاً لإسرائيل، ولا يمثّل أيَّ أهمية بالمعنى القانوني، أو حتى السياسي، لكنّه يعني كثيراً على المستوى الرمزي، بالنسبة لجوهر تلك الدولة وما ينبغي أن تكون عليه في الحاضر والمستقبل، فقد أصبحت إسرائيل في اختبار تاريخي لصدقية المزاعم والادّعاءات التي تأسّست عليها، ولم تعد مسألة "الأساطير المُؤسِّسة" هي المهمّة حالياً، وإنما فقط الأساطير "المُبقية" على حياة ذلك الكيان المصطنع.

بُنيت إسرائيل على فكرة كاذبة وهمية مُختلقَة، في النهاية تظلّ فكرةً، وتصوّراً نسجت حوله مبادئ ومفاهيم أُخِذت من أصول فلسفية غربية وأضافت إليها. ومناط العمل الآن، هو مطابقة ذلك التصوّر في الواقع وكشف كذبه ووهميته. هو طريق طويل ومتعدّد المسارات، ولعلّه بيد المحكمة الجنائية الدولية، إذ وضعت جرساً في رقبة القِطّ.