ترامب الثاني... زمن عقد الصفقات

العودة العظمى لرجل سياسي في التاريخ الأميركي، وفق رسائل التهنئة من قادة العالم، توحي بأمر واحد؛ دونالد ترامب عاد إلى إجراء تغييرات عميقة، داخل الولايات المتحدة وخارجها. ليس بالضرورة أن يكون ترامب الثاني عائداً لينتقم، ولا أن يستعجل تحقيق الثأر في أربع سنوات مقبلة، بل ستكون عودته تدشيناً لمرحلةٍ أميركيةٍ مختلفة. ولمن يعشق نظريات المؤامرة، وتحديداً تلك المتعلّقة بـ"الدولة العميقة"، فإن تلك "الدولة" ليست بعيدةً عن التحوّلات المرتقبة في أميركا. سيُطبّع الرجل واقعاً أساسياً مشابهاً للذي تلى الكساد الكبير في عام 1929 في الولايات المتحدة، وهو "فنّ إجراء الصفقات". سيُعيد رسم مسار أميركا ـ سيدة الأعمال، التي لا تربطها ضغائن شخصية مع أيّ طرف في العالم، بل تعمل وفق مبدأ عملي يحكمه المال، أو المصالح المتبادلة. وفي الوقت نفسه، لن يفاوض ترامب الثاني في موقع الندّ للندّ بقدر ما ينوي ترسيخ مفهوم "الأولوية الأميركية" في العالم. أصلاً، سبق أن توعّد بفرض ضرائبَ إضافيةٍ على كلّ دولة لا تعتمد الدولار عملةً احتياطيةً لها. في الواقع، من الصعب على أيّ دولة التخلّي عن الدولار. الصين أوّلها وإيران ثانيها وروسيا ثالثها، مهما قال الرئيس فلاديمير بوتين.

سيدفع ترامب الثاني أكثر باتجاه عقد الصفقات المالية ذات الانعكاسات السياسية، مثل تعهّده بـ"إحلال السلام الشامل في الشرق الأوسط"، أو إجراء اتفاق نووي جديد مع إيران. وهنا المسألة كلّها. ما الذي سيفعله ترامب بشأن القضية الفلسطينية؟ إعادة إحياء "صفقة القرن" أم تعديلها؟ ذلك، لأن أيّ مقاربة عادية في شرق أوسط غير عادي ستبوء بالفشل، وستُفضي إلى تتالي الحروب في قلب العالم. وبالنسبة إلى الصين، أمامها حلّ من اثنين: تَكَلُّف ضرائب إضافية على منتجاتها المصدّرة إلى الولايات المتحدة، أو العودة إلى الاتفاق التجاري الجزئي الموقّع في عهد ترامب الأول (2017 ـ 2021) بين البلدَين (يناير/كانون الثاني 2020). لن تتمكّن الصين من المناورة أمام أيّ ضغط من ترامب عليها حتى انقضاء عهده، إذ يكفي أن مصطلح "الركود" بات ملاصقاً للاقتصاد الصيني منذ تفشّي وباء كورونا في عام 2020، وبات متغلغلاً في صميم المجتمعات الصينية. كذلك، بالنسبة إلى روسيا، التي تدرك تماماّ أن ترامب المستعدّ لإبرام صفقات معها، سيدفعها إلى تقديم "تنازلات" معيّنة. كان الرئيس العائد أكثر من دعم أوكرانيا اقتصادياً وعسكرياً قبل الحرب الروسية عليها. بالنسبة إلى بوتين، لن يقدّم له ترامب الثاني، ولو كان متحرّراً من عبء أيّ ولاية مستقبلية بحكم الدستور الأميركي، أجزاء من أوكرانيا مثلاً، في مقابل أثمان بخسة، أو فقط لأن هناك "تفاهماً" بين الرئيسَين.

وإذا كانت روسيا والصين، "جبّارا" ما يُمكن وصفه بـ"المعسكر الشرقي" (ومعهما إيران)، يدركان أن السلوكات غير الواقعية لا مكان لها في قاموس شخص تجاري العقلية، فإن زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، قد يجد نفسه مجدّداً إلى طاولة واحدة مع ترامب، بعد قممهما الثلاث خلال الولاية الأولى للرئيس العائد. في الواقع، إن دافع كيم، المتحرّر نسبياً من القيود الصينية، إلى جهة تكريس تعاونه مع روسيا، ينبثق من الإحباط المستشري في كوريا الشمالية حيال الوضع الاقتصادي والعواصف الطبيعية. وهو ما دفعه إلى إرسال جنوده إلى روسيا لمقاتلة الأوكرانيين، وهو ما حفّزه على اعتماد التصعيد الخطابي والإعلامي ضدّ كوريا الجنوبية، الذي سيُمهّد إلى صدام عسكري إذا استمر الأمر على هذا المنوال. مع ترامب يُمكن العودة إلى الفكرة القديمة بتحويل كوريا الشمالية أرضَ المصانع الأميركية. يتطلّب صفقة واحدة وابتسامة تُشبه ابتسامات القمم الثلاث. ترامب الثاني، "الناجي" من ثلاث محاولات اغتيال و91 اتهاماً في أربع قضايا جنائية، سيُثبّت مفهوم "عقد الصفقات" أميركياً مهما كان صعباً على العالم، وذلك بعيداً من "عاطفية" باراك أوباما، و"تقليدية" جو بايدن.