كلفة الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي
الاقتصادية اللامعة بيريهان الرفاعي كتبت العديد من الأبحاث حول اقتصادات الشرق الأوسط، والأمن السيبراني، وبناء الطاقة الإنتاجية. وقد عملت في أماكن كثيرة منها صندوق النقد الدولي، والبنك المركزي القطري، والجامعة الأميركية بالقاهرة، وجامعة جورج واشنطن، ومعهد بحوث السياسات الغذائية الدولي، وحط بها الرحال مؤخراً في مجلس الأطلسي. وقد اطلعت مؤخراً على آخر مؤلفاتها أو تقاريرها بعنوان "الكلف الاجتماعية والاقتصادية للحرب في غزة".
وأنا أعرف أن الجهة التي تعمل لديها الباحثة المرموقة هي جهة أميركية Atlantic Council، إلا أنني لا بد أن أسجل الاعتراض على العنوان، بخاصة استخدام حرف الجر (IN) أي "في" بدلاً من على "ON" غزة. ولكن أقول إن العنوان إلى حد ما محايد إلى حد المحاباة. لكن التقرير بحد ذاته مفيد. وأنصح كل من يريد أن يتثقف عن مقدار الكلف الاجتماعية والاقتصادية على الجهات المتحاربة، والجهات الإقليمية والدولية المتأثرة بالنتائج الوخيمة لهذه الحرب، بأن يقرأ التقرير.
وقد رجعت إليه باحثاً عن آراء ومعلومات محايدة وصادرة عن جهات موثوقة علمياً، من أجل أن أقدر الخسائر التي تكبدها الاقتصاد الإسرائيلي حتى الآن. ووفقاً لدراسة الرفاعي، فإن إسرائيل خسرت في الربع الثالث من هذا العام خُمْس اقتصادها بالمقارنة مع الربع الثالث لعام 2023، حيث كان مجموع الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي يبلغ لعام 2023 بأكمله 576 مليار دولار، وبمعدل دخل للفرد يبلغ 58.3 ألف دولار.
أما موقع " Trading Economics " فيتوقع حسب نماذج لقياس الناتج المحلي أن يهبط الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي إلى 513.5 مليار لعام 2024، أو بهبوط قدره 62.5 مليار دولار، أو ما نسبته 10.8%. أما في عام 2025 فيقدر أن يرتفع إلى 527.3 مليار دولار، وفي عام 2026 إلى 552.6 مليار دولار.
أو أن الاقتصاد الإسرائيلي سيعود إلى رقم عام 2023 في منتصف عام 2027 تقريباً. هذا بافتراض أن تنتهي الحرب الحالية في نهاية هذا العام.
أما الاقتصادي الإسرائيلي شير هافر (Shir Haver) والمعارض القوي لحرب إسرائيل الغاشمة على غزة ولبنان فيعطي أمثلة صارخة على خسائر إسرائيل، إذ يرى انهياراً في كل القطاعات، مثل الهبوط الكبير في الدخل السياحي، وأثر مقاطعة الجامعات الأجنبية على الأبحاث والتطوير في الجامعات الإسرائيلية. ويقول إن أكثر من مائة ألف شركة قد قاربت على الإغلاق أو أغلقت فعلاً. ويقوم كثير من الإسرائيليين بتحويل أموالهم خارج إسرائيل خشية على مدخراتهم، أو رواتبهم التقاعدية المتآكلة بفعل الهبوط في سعر صرف الشيكل. ويؤكد كذلك أن شركة " إنتل" العالمية التي كانت تنوي بناء مجمع ضخم للشيبس (Chips) بقيمة 25 مليار دولار قد ألغت ذلك المشروع. والأهم من هذا هو أن عدداً كبيراً من الإسرائيليين، يقدره البعض بحوالي نصف مليون شخص على الأقل، قد غادر إسرائيل بدون نية العودة، وأن نصف مليون آخر غادروا إسرائيل مؤقتاً إلى قبرص واليونان وتركيا ودول أخرى.
ووفق تقرير لبنك إسرائيل (البنك المركزي) فإن الحرب على غزة ستكلف إسرائيل حوالي 400 مليار دولار خلال السنوات 2023-2032، وأن الحرب ستكبد إسرائيل خسائر مباشرة تقدر بحوالي 57 مليار دولار حتى نهاية 2025، أما الخسائر غير المباشرة فهي أكبر من ذلك بكثير. ومن جملة الخسائر هو إيقاف انتقال العمال من الضفة الغربية للعمل في إسرائيل واستبدالهم بآلاف العمال من الهند وسريلانكا، ما ينطوي على تكاليف انتقال وسكن وغيرها من الأمور التي لا تتكبدها إسرائيل مع العمال الفلسطينيين. وبفعل هذه الآثار، فإن اقتصادي الضفة الغربية وغزة اللذين كانا يدران دخلاً لإسرائيل لا يقل عن عشرة مليارات دولار قد تلاشا الآن.
وحصيلة كل هذه الآثار أن معدل النمو السنوي في الناتج المحلي الإسرائيلي قد هبط خلال عام 2024 إلى أقل من 2% بعدما كان 6.5% سنوياً، ومن أسرع اقتصادات دول العالم نمواً. ولكن إذا استمرت الحرب، فإن الناتج القومي سيتراجع معدل نموه إلى أقل من صفر.
لكن الأهم من هذا كله هو أن إسرائيل قد استخدمت الكثير من طاقتها ومن الإجراءات المساندة لجهدها الحربي خلال السنة الأولى من الحرب. فهي جندت آلاف المرتزقة الذين يأتي بعضهم على أنه عامل ليحل مكان العمال الفلسطينيين. وكذلك، فإن إسرائيل استخدمت كل ما لديها من أسلحة فتاكة لتقتل وتهدم وتدمر المقاومة، ولم يبق ما تهدد به إلا أسلحتها النووية. والأمر الأهم هو أن المتغير المكلف في هذه الحرب هو خسارة أهم رصيدين لها. الأول هو فقدان مصادر دخلها الأساسية من السياحة، والتكنولوجيا الدفاعية، والتقدم السيبراني الإلكتروني، وتعاونها مع مراكز الغرب البحثية المتطورة، والأهم مصادر دخلها من المناطق القائمة باحتلالها.
أما الأمر الثاني فهو خسارتها المقوم الأساسي لبقائها وهو العنصر البشري المتمثل في الاقتصاد ككل ومصادره الأساسية. فإذا بدأت الهجرة المعاكسة من إسرائيل إلى دول يحمل الإسرائيليون جنسيتها الثانية، فإن هذا يعني استبدال الأكفاء والمتعلمين والمنتجين منهم بيهود سيكونون أقل ميلاً للهجرة للخارج خاصة المتطرفين دينياً والذين يعيشون على الدعم من الخزينة، وعلى أراض وحقوق بسبب استيطانهم في الأراضي المحتلة، وهؤلاء أقل تعليماً وثقافة وإنتاجية، ومعظمهم يرفض التجنيد.
صحيح أن الرأسمال اليهودي أو الصهيوني في العالم كبير جداً. ولكن هؤلاء مدفوعون لدعم إسرائيل حتى تستطيع أن تبني لنفسها فسحة لتعتمد على ذاتها. وبعدما كادت أن تطمئن أنها وصلت إلى هذه المرحلة اقتصادياً واجتماعياً، وأن تفوقها التكنولوجي بات يشكل لها رصيدها الأساسي، وبعدما ازدهرت السياحة، وحققت لنفسها معدل نمو متطوراً يتناسب مع قبول العرب ببقاء الحال على حاله، جاءتها الصاعقة يوم السابع من أكتوبر 2023 لتذكر قادتها ومتطرفيها وحكومتها الرعناء، وتأكدوا أن الصمت العربي كان رصيدهم الأساسي، وبخاصة الموقف الفلسطيني.
وحتى لو كانت النتيجة الأبرز في هذه الحرب هي تحويل المقاومة في غزة والضفة الغربية ولبنان إلى أحزاب سياسية. فإن الحقيقة التي لا تغيب عن ذهن العقلاء من الإسرائيليين هو أن الغلبة لن تكون لهم أبداً، وأن خير استثمار يقومون به هو تحسين علاقاتهم مع العرب، والكف عن التآمر عليهم مع جيران العرب في إيران وتركيا وأفريقيا، وفي خلق تحالفات دينية مع البيض في أوروبا والولايات المتحدة. لقد بات كثير من هؤلاء يرون الوجه البشع لإسرائيل الذي لا تفيد معه حملاتهم الدعائية، ولا احتجاجات كثير من يهود العالم المتحضرين ضد ممارسات إسرائيل اللاأخلاقية واللادينية واللإنسانية.
هناك 149 دولة تعترف بدولة فلسطين. وتمسّك إسرائيل بالأرض الفلسطينية وإبقاؤها تحت الاحتلال أمر لا بد من وضع نهاية له. وإسرائيل لا تصبح جزءاً من المنطقة على أساس أن اليهود هم عرق كان له في التاريخ دولتان دامت كل واحدة منهما ثمانين عاماً وانتهت. فأكثر هؤلاء اليهود قد أسلموا أو اعتنقوا المسيحية. وأما غالبية سكان إسرائيل فهم من بلاد الخزر ولا يمتون بأي صلة لأبناء يعقوب عليه السلام.
ولذلك بتنا نرى كثيراً من المؤرخين والأساتذة والمفكرين الإسرائيليين، عبرانيين كانوا أم من الخزر، متدينين كانوا أم من المتطرفين دينياً، أو من المؤمنين بإسرائيل ودورها في الحفاظ على أمن اليهود في العالم، أو من الرافضين فكرة إنشاء دولة يهودية، أقول إن الكثير من العقلاء من كل هؤلاء يرون أن إسرائيل بارتكابها للجينوسايد (أو الإبادة الجماعية) ضد الفلسطينيين فإنها ترتكب أيضاً الانتحار الجماعي بحق نفسها، ولذلك فهم لا يرون أي مستقبل لها في هذا المناخ المعادي والرافض لهيمنتها.
آخر ما تحتاجه إسرائيل هو نتنياهو ومن هم على شاكلته من القتلة والسفاحين الذين يحددون مصيرهم ساعة يسفكون دماء الأبرياء من الناس، ويسمونهم ظلماً وتغافلاً "Collateral Damage" أو "ضحايا من دون قصد".
على إسرائيل أن تسعى لتدارك مصيرها، لأنها من دون أن تُقبل في محيطها ومن جيرانها، فإن قابليتها للحياة ستكون قصيرة ومحتومة.