كلّنا يشملنا الخجل

من الحاكم حتى عربجي "الكارو"، ومن عصافير النيل حتى أفيال حديقة الحيوان في الجيزة، حتى غزالات الوديان في جزيرة العرب مروراً بالصحراء الكبرى حتى المحيط الأطلسي، ومن صندوق نذور السيد البدوي حتى تلك الأسلحة المخزّنة في أقبية الكتائب العسكرية في بلداننا العربية كافّة، ومن محل الكشري حتى أهرامات الجيزة، ومن دكتور الجامعة حتى "كمسري" النقل العام، كلنا يشملنا الخجل.

تتكلّم الدبلوماسية بألف لسان، والحقّ له ذلك اللسان الوحيد. الدبلوماسية لها غرفها، والحقّ ليس له سوى السيف ودم صاحب السيف. نامت الشعوب طويلاً على نفس وسائد حكّامها، إلا القليل، الكلب يعرف رائحة طعام صاحبه، وحتى كلابنا نامت حينما شبعت وانتشرت الروائح في المطابخ؛ "إسرائيل" تعرف ذلك جيّداً، وتدرس ذلك جيّداً، وتطرق حديدنا وهو ساخن وليّن، وتشكّلنا، في أوقات ضعفنا، كيف تريد.

الأغاني في الأوطان كثيرة، خاصّة تحت أصابع عمر خيرت الليّنة فوق البيانو، و"إسرائيل" تساعدنا على استمرار ذلك الغناء بكلّ وسيلة حتى في ملاعب كرة القدم ومسلسلات رمضان العامرة بالعباءات الحريرية والسيوف ورائحة البخّور المجلوب من جوار مسجد السيّد البدوي، كلّنا نخجل ونذهب إلى العمل بخجلنا، كي لا نترك عفونة المطابخ كما كانت في الليل، رغم أن جثثنا تتعفّن هناك وتأكلها الكلاب في الليل، وأيضاً لا نخجل، ونقيم مهرجان الجونة، كلّنا لا يخجل، ويبدّل إبراهيم عيسى ألوان حمّالاته كلّ يوم على الهواء مباشرة بالقرب من التكييف، بعد أن يوازن ما بين بنود الأجندة، ويشتري أولاد الفقراء في إمبابة الكلاب الدنماركية والبيتزا، ويزرع الورد أيضاً، وتصدر الضفادع من طمي الدلتا إلى فرنسا، ويسير شباب بيّاعي الخردة والكرتون والبلاستيك وراء مكاسب ابن العرجاني وابن حفتر، حتى وإن قلّ سعر الحديد في السوق، واضح أن هناك نقصاً في العملة، أو أن الحديد لم تعد له أي مكاسب في السوق.

كلّنا في دوامة خجل من يكسب ومن يخسر ومن لم تمر عليه الخسارة ولم ير الكسب إلا في حلمه، الأحزاب تحاول أن تقسّم الكعكة، إذ لا كعكة موجودة أصلاً، وصارت أبواب الأحزاب التقدّمية واجهةً لبوتيكات حقيقية، والكتّاب في كهوفهم، وأصحاب النظريات ذهبوا إلى جبل الأولمب وأفران الكنافة تستعدّ من الآن لرمضان، ومحمّد منير هناك يتساند إلى كرسي كي يغنّي غناءً موجوعاً للوطن، ولا مانع أن يكون مع أغنياته رقصة من على الكرسي لنعناع الجنينة، والطفل هناك يشتري بمصروفه شطيرةً ويتعلّق بمؤخرة "تيوتا"، ويبكي كي يشتري الباقة من معاش أمّه القليل، والحكومة، خلف الباقات، تعدّد مكاسبها مع رجال الأعمال، ولا مانع من كتابة "بوست" من ساويرس يهزّ به أهداب الشعب أيضاً، لزوم نباهة المال ووطنيته، ومحمّد منير هناك بجوار الكرسي، كلّنا يشملنا الخجل في غزّة ولبنان، حتى آخر حدود إيران.

تعمل ماكينات القطن في همّة أمام المنجدين لنفش القطن قبل التنجيد، قبيل الشتاء كما العادة، والإوزّ الأخضر يظهر بمرحه خلف العيدان الجريد في الأقفاص، الشتاء طيّب، وقد يكون الضعف طيّباً.

كلّنا يشملنا الخجل، ابتداءً من ذلك الحاكم الذي يدفع في كلّ عام المليارات ثمناً للطائرت، ثمّ يخزّنها في البلاليص، على رأي المرحوم عبد الحكيم قاسم في جيل الستينيّات، وتخزين كتابتهم في البلاليص مع المش مع قصصهم القصيرة والطويلة.

كلّنا يشملنا الخجل، فما زال جيل الستينيّات من القرن الماضي يتصدّر أدبيات اليوم، ابتداءً من مصطفي الفقي، حتى بلاليص المش، حتى الصحف الورقية التي تباع لأصحاب محلات الطعمية، بعد ما صار ثمن "الساندوتش" يوازي ثمن الاشتراك السنوي في القطار في نهاية أيّام السادات الذي تصالح مع "إسرائيل"، هل نبتت "إسرائيل" من سماد أيدينا؟

الخجل يشملنا جميعاً، ابتداءً من ذلك الطفل الذي تعلّق بكيس "الشبسي" صباحاً، حتى سائق "الكارو"، الذي يقف أمام شواني الأسمنت كي يحصل على "نقلة"، ويشرب أمام بيت الزبون الشاي، أو ذلك العسكري الذي يجري وراء المُفرَج عنه من سراي النيابة كي يأخذ منه "حلاوة خروجه"، حتى أستاذ الجامعة الذي ذبح العجلَين أمام باب الجامعة لأنه صار رئيساً للجامعة، فجعلني أعيد قراءة طه حسين، وخاصّة علاقته بالملك فؤاد، وجعلني أيضاً أضحك على تكريم مهرجان الجونة للممثّل محمود حميدة، بعد ما نظر شزراً لأخت الممثلة إلهام شاهين وهي تصعد إلى جبل الأولمب محمّلة بالذهب.