هذه الحرب الغربية على فلسطين




لا يلوح في الأفق أيّ مؤشر بشأن وقف إطلاق النار، ووضع حدّ للمقتلة المفتوحة في قطاع غزّة منذ أكثر من سنة. ومن الواضح أن حكومة بنيامين نتنياهو تدرك أن هناك ضوءاً أخضرَ غربياً لمواصلة حربها على الفلسطينيين والقضاء على ما تبقّى من مظاهر الحياة في القطاع المنكوب، بما يعني بالضرورة، قطع الطريق على أيّ إمكانية لتحويل الوعي الشعبي المتنامي في العالم بشرعية النضال الفلسطيني مبادراتٍ دوليةً تتغيّا تحقيق الحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية.

تقدّم الدول الغربية الكبرى (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) الغطاءَ السياسي لهذه الحرب القذرة، أولاً بتعطيلها نظام الأمم المتحدة بآليتَيه السياسية (مجلس الأمن) والقانونية (محكمة العدل الدولية)، لأجل تجنّب أيّ وقف لإطلاق النار، يمنح المقاومة هامشاً لاستخلاص ما تراه عائداً سياسياً من ''طوفان الأقصى''، وثانياً بتغذيتها آلةَ القتل الإسرائيلية بتقديم الدعم العسكري واللوجيستي والسياسي لدولة الاحتلال، حتى تحافظ على تفوّقها العسكري والتكنولوجي في مواجهة محيط عربي (شعبيٍّ بالطبع) معادٍ لنزعتها التوسعّية والاستيطانية. وهو ما يعني أن المشروع الصهيوني، في حقيقته، ليس إلا الحلقة الأكثر وحشيةً في المشاريع الاستعمارية الغربية التي يُفترض أنها تفكّكت، أو على الأقلّ تراجعت، بحصول البلاد العربية على استقلالاتها (المنقوصة) في منتصف القرن الماضي. هذه الاستقلالات، وإن كانت قد فتحت المجال أمام تأسيس الدولة الوطنية، وتشكُّل الوطنيات العربية (القطرية)، إلّا أنها أبقت على مظاهر التبعية للدول الاستعمارية. بيد أن ذلك لم يكن كافياً، في ظلّ التدافع الاجتماعي والسياسي الذي شهدته بلدان عربية بين القوى المحافظة الحاكمة، والقوى التقدّمية (الثورية) التي وجدت في الجيوش وسيلةً لتحقيق تطلّعاتها الاجتماعية والسياسية. فكان تأسيس كيان هجين جزءاً من منظومة استعمارية غربية متكاملة توخّت الهيمنة السياسية والاقتصادية على بلدان المنطقة، حتى مع حصولها على استقلالاتها، وفق تقسيم يفصل بين مراكز القوة الاقتصادية والعسكرية في الغرب، وبلدان تابعة ومستهلكة في الجنوب؛ هذا الجنوب الذي لا تتحقّق الهيمنةُ على مقدراته وثرواته، من دون شلّ المنطقة العربية، بخلق هذا الكيان في قلبها، ومدّه بكل مقوّمات القوة.

تبدو حرب الإبادة في قطاع غزّة محطّةً مفصليةً في هذه المعادلة الاستعمارية؛ فقد أعاد ما حدث، منذ 7 أكتوبر (2023)، الصراع إلى جذوره التاريخية التي تعود إلى بداية القرن المنصرم، وكشف أمام الرأي العام الغربي (وهذا الأخطر بالنسبة للغرب وإسرائيل) الطبيعةَ الاستيطانيةَ والاستعمارية لدولة الاحتلال وازدواجيةَ المعايير الغربية تجاه قضايا الديموقراطية والحقوق والحرّيات، كما كشف أيضاً عجز النظام الدولي عن الانتصار لضحايا العدوان الإسرائيلي، أنهم فقط يمثلون الحلقة الأضعف في الصراع؛ وبذلك يصبح عشرات آلاف من الشهداء والجرحى تكلفةً أخلاقيةً وإنسانيةً كُبرى ينبغي تحمّلها لأجل الحفاظ على أمن إسرائيل وضرب مصادر تهديد أمنها واستقرارها.

ليس المشروع الصهيوني، في تشكّله وتطوّره، إلّا امتداداً طبيعياً لخطاب الهيمنة الاستعماري الاستيطاني (الغربي) بتجلّياته كلّها، السياسية والاقتصادية والثقافية. وهو الخطاب الذي ينطلق من بديهية أن تحقيق هذه الهيمنة يقتضي القضاء على الشعوب الأصلية، واستئصالها من الأرض التي تشكّل محور هُويَّاتها. من هنا، يصبح صمت الدول الغربية الكُبرى على الإبادة الجماعية في غزّة إقراراً بـ''ضرورتها''، حتى تُهيمن السردية الإسرائيلية في مواجهة سردية أصحاب الأرض. وفي المقابل، يمثّل صمود المقاومة الفلسطينية صمودَ مشاريع التحرّر الوطني كلّها، التي تجابه الاستعمار الجديد الذي تقوده الدول الغربية الكُبرى، بزعامة الولايات المتحدة، والمؤسّساتُ المالية الدولية، في سعيها لنهب ثروات الشعوب ومقدراتها، بتواطؤ مع النُخَب المحلّية الحاكمة. ولعلّ ذلك ما يجعل تأييد الغرب الجرائمَ الإسرائيلية بحقّ الشعب الفلسطيني وتبريرها انعكاساً لنزعته الاستعمارية المتأصّلة. فهو لا يرفض منح الحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية بإقرار حلّ الدولتَين، بل لا يجد غضاضةً في تبرير ما يحدث في قطاع غزّة، من إبادة وتطهير عرقي وتهجير وتجويع، بدعوى حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضدّ ''الإرهاب الفلسطيني''.