الأثر التراكمي لدويّ صفّارات الإنذار



لعلّ أكثر التعبيرات المجازية بلاغة، في تشخيص هُويَّة الدولة الشرق أوسطية الشاذّة عن محيطها، ذاك التشخيص الرائج منذ عقود خلت؛ "إسرائيل دولة فوق جناح طائرة حربية"، في إشارة دالّة على أن الميزة النسبية الأولى للدولة العبرية ماثلة في تفوّق سلاحها الجوّي على محيطها الجغرافي، بفضل كثافة الاستثمار في التكنولوجيا العسكرية، وتوظيف أفضل الموارد البشرية، فضلاً عن التزام واشنطن بإدامة هذا التفوّق، بمنح ابنها الشقيّ المدلّل أفضل ما لدى الترسانة الحربية للدولة العظمى من طائرات حديثة وخدمات دفاع جوّي مساندة، بسخاء شديد، وتمويل لا محدود، على حساب دافع الضرائب الأميركي.

لم تخسر الدولة المارقة عنصرَ التفوّق الجوّي بعد، ولم تتوقّف يوماً عن التعويل على مقاتلاتها أميركية الصنع لإحداث الفرق، وإيلام المدنيين هنا وهناك دون حدّ، رغم خسارتها القدرة الكلّية في حسم المعارك من الجوّ، وتعثّر أرتالها البرّية في الأرض، الأمر الذي أنزل الدولة المجنونة من على جناح الطائرة الحربية إلى القبو، ودفع الملايين من مستوطنيها المذعورين إلى الملاجئ (نحو 2500 مرّة) على وقع هدير الصواريخ والمُسيَّرات المتدفّقة من الجنوب والشمال، ودويّ صفّارات الإنذار، الأشدّ أيلاماً من صوت القصف، في الليل والنهار، تارّة من شبكة أنفاق غزّة، أوّل الأمر، وطوراً من تحت وهاد جبال لبنان إلى اليوم، في مشهد لم يَدرْ في مخيالٍ مترعٍ بروح العجرفة والاستعلاء وجنون العظمة.

في معظم الحروب السابقة، لم يصل إلى مسامع الإسرائيليين صوت صفّارات الإنذار التي كان دوّيها حِكراً على الأسماع العربية، لأن رحى المعارك كانت تجري بعيداً عن أسوار القلعة الحصينة، حتى إن المستحمّين في شواطئ تلّ أبيب كانوا يواصلون أخذ حمّاماتهم الشمسية فيما كانت الحرب تدور بعيداً في الأفق، ولم تنكسر هذه القاعدة إلا لماماً، عندما راحت تصل الأطراف بعض الرشقات الصاروخية، إلى أن انقلب السحر على الساحر في الحرب الراهنة، فشغّلت صفّارات الإنذار بعد طول بطالة، وأكره الملايين في المركز والشمال على الهرولة يومياً نحو الملاجئ، والعيش في الأقبية إلى أجل غير مُسمَّى.

غداة يوم 7 أكتوبر (2023) فرّ عشرات الألوف من المستوطنين على وجوههم من غلاف غزّة، تحت وطأة ما جرى لهم صبيحة ذلك اليوم المجيد. وفي اليوم التالي قدّم المذعورون، من هول ما جرى في الغلاف، خدمة مجّانية للمقاومة اللبنانية، التي لم تكن قد انخرطت بعد في الحرب، بتهجير عشرات الألوف من الجليل، خوفاً من "7 أكتوبر" جديد، الأمر الذي أوجد واقعاً لا سابق له في تاريخ الصراع المديد، ونعني به إقامة حزام أمني، ليس في أراضٍ عربية، وإنّما داخل أسوار القلعة الحصينة هذه المرّة، وأنتج للمرّة الأولى ظاهرة نازحين إسرائيليين، وشكّل في الوقت ذاته علامة فارقة، بلبلت بلبال بني إسرائيل، وراحت تداعياتها تُثقل بشدّة على صورة القبيلة الممتازة بين قبائل الشرق الأوسط الرثّة.

مع مرور الوقت، أخذ الشريط العازل يتّسع في الطول والعرض، وبدأت أعداد النازحين هؤلاء تتزايد كلّما زاد دويُّ صفّارات الإنذار، إلى حدّ لم يعد هناك، وفق مصادر عربية محلية مصداقة، وجودٌ لإسرائيلي مدني واحد في الجليل، إلا لحفنة هنا أو هناك من المستوطنين المجانين، تماماً كما هو الحال في غلاف غزّة، الأمر الذي يعطي إنذار المقاومة اللبنانية بتحويل حيفا كريات شمونة جديدة، وزناً مضاعفاً عن وزن قصف قاعدة رامات ديفيد المجاورة أو بنيامينا مثلاً، ويخلق نقطة تحوّل لم يُحسَب لها الحساب من قبل، ويجعل هذا التهديد المحمول على أجنحة الصواريخ الثقيلة أمراً قابلاً للتحقّق في المدى المنظور.

وأحسب أن إدخال نحو مليوني نسمة من ساكني حيفا وخليجها الغاصّ بالممتلكات الثمينة والمواقع الاستراتيجية، بإطلاق رشقتين صاروخيتَين غير منتظمتَين في اليوم، على مدى أسابيع، إلى الملاجئ، يعادل من حيث الفعّالية غارة سربٍ من الطائرات الحديثة، وربّما أكثر، ويشكّل بالضرورة أحد أمضى الأسلحة المتاحة للمقاومة المدجّجة بالصواريخ والمُسيَّرات، نظراً لما يؤدّي إليه الأثر التراكمي هذا من معطيات جديدة وجادّة جدّاً، أكثرها أهمّية على الإطلاق ضغوط العيش في الأقبية، وسط توتّرٍ وهواجسَ مرعبة، تشلّ الحياة العامّة والشخصية، وتحولّها حياة لا تشبه الحياة، لا سيّما لدى شرائح اجتماعية ثرية، ونُخَب ليبرالية، وأصحاب ودائع مصرفية ومهن وخيارات بديلة، وجنسيات مزدوجة.