إعلام عربي صهيوني
لم يكن مفاجئاً ما عمدت إليه قناة MBC ببثّها تقريراً يتبنّى بالكامل وجهة النظر الصهيونية في توصيف المقاومة الفلسطينية والتسويق للدعاية المناهضة للتحرير، التي تروّج الدعاية الصهيونية، ربّما بشكل يفوق حتّى بعض وسائل الدعاية الصهيونية، التي تحاول أحياناً أن تكون أكثر موضوعية على الأقلّ، حسب مقاييس الإعلام الكولونيالي المعتاد.
لقد اعتادت وسائل إعلام عربية معروفة، منها "MBC" ومشتقّاتها، وقناة العربية وتوابعها، تبنّي المفردات الصهيونية، وهكذا نجد مصطلحات "قتيل" بدلاً من "شهيد"، و"حرب" بدلاً من "عدوان"، وصولاً إلى توصيف النضال الفلسطيني بـ"الإرهاب" بدلاً من المقاومة. والحقيقة أنّ هذا التوجّه الدعائي لهذه القنوات أبعد ما يكون من مجرّد خيار إعلامي يرفع شعار الحيادية والموضوعية، فليس من الموضوعية في شيء وصف اغتيال قادة المقاومة بالخلاص من الإرهاب، فهذا التوصيف هو في النهاية موقف سياسي منحاز إلى الاحتلال بشكل أو بآخر.
يدرك كل باحث أنّ الحرب "امتداد للسياسة بوسائل مختلفة"، ويشير هذا التعبير إلى فهم خاص للسياسة (وليس للحرب فقط) يقوم على أنّ للسياسة والحرب الهدف ذاته؛ أي تغليب إرادة جماعة أو مجتمع ما (ووجودهما) على إرادة ووجود جماعـة أخـرى أو مجتمع آخر. وبصرف النظر عن أصل هذا الفهم للسياسة بالذات، فبسبب هذا الارتباط الأصولي والمصيري بين الحرب والسياسة لا مندوحة عن أن يكون الكلام عن الدعاية للحرب كلاماً عن الدعاية السياسية في الوقت ذاته. وفيما الشائع أن تتناول "الدعاية للحرب" مـوضوعات تخويف الأعداء أو إرهابهم من ضراوة صاحب الدعاية وقوّته أو وحشيته، والاستهانة بكلّ من القتل والموت وإعلاء شأن أسلحة بعينها والتهوين من شأن أسلحة أخرى... إلخ، فإنه يتبع ذلك أيضاً الدعوة إلى "قضية بعينها"، وإعلاء شأنها، والتهوين من شأن "قضية" أخرى والحطّ منها، وفي هذه الحالة يوصّف المقاوم بـ"الإرهاب" وتوصّف المقاومة بـ"العبثية"، وبأنها تجلب الكوارث لشعبها، وكلّ من يتبنّى هذا النوع من الخطاب هو بالضرورة جزء من دعاية العدو، يتبناها ويروّجها وفقاً لتوجّه سياسي تحدّده الدولة، التي تموّل هذه القنوات، وتمنحها المجال للتعبير والتأثير في الجمهور.
في وقتٍ تتحرّك فيه جامعاتٌ ومواقعُ إعلاميةٌ غربيةٌ مختلفةٌ نحو تعديل مواقفها من المقاومة الفلسطينية، تتجه بعض الجهات العربية نحو مزيد من التجانس مع الموقف الصهيوني
قد يبدو وصف القنوات والمواقع الإلكترونية المناوئة للمقاومة بأنّها صهيونية مبالغاً فيه في نظر بعضهم، غير أنّ متابعة تاريخ الإعلام المؤيّد للصهيونية في الغرب يثبت صحّةَ مقولةِ وجود صهاينة من غير اليهود، مهما كانت انتماءاتهم العرقية والدينية. ويمكن تعريف هؤلاء بأنّهم كلّ طرف سياسي أو جهة إعلامية تتبنّى معتقداتٍ وقناعاتٍ تهدف إلى تأييد قيام دولة قومية يهودية في فلسطين، بوصفها حقّاً لليهود، ويؤيّدون أهداف الصهيونية، ويتبنّون مفرداتها ومصطلحاتها ويشجعونها بشكل صريح أو مقنّع.
غير أنّه ينبغي أن نتوقّف عند النقطة المحورية، التاريخية والفكرية معاً، التي تتحوّل عندها التغطية الإعلامية للحرب دعايةً سياسيةً كاملةً تستهـدف الدعوة إلى فكر سياسي وطني أو اجتماعي أو أيديولوجي (أو هـذه المكوّنات كلّها)، وإلى الدفاع عنه إعلامياً، وإلى مهاجمة نقائضه، والدعوة إلى تأييد الحرب ضدّ الأعداء وتبرير إبادتهم بدعوى محاربة الإرهاب وإحلال "السلام"، وهذا ما تورّطت فيه وسائل إعلام عربية، وإن حاولت تغطية توجّهها السياسي المؤيّد للصهيونية عبر شعارات مخادعة، بدعوى الموضوعية ونقل الوقائع الحاصلة في الأرض. وما أيسر الانزياح من خانة الإعلام إلى الدعاية الفجّة، فإنّ الدعاية تعرّف هنا بأنّها المحاولة العامدة لإقـنـاع المتلقّي للتفكير وفق ما يرغب فيه من يصدر هذه الدعايات، إنّها قـذائف مـن الكلمات تُختار بعناية وتُصاغ بحساب دقيق، مستهدفةً تشكيكَ شعبٍ يرزح تحت الاحتلال ومقاومته في قضيتهم، وهدم ثقتهم في قياداتهم، وفي قدرتهم على تحقيق النصر، وهذا ما تعمد إليه أجهزة الدعاية الصهيونية التي لا تحظى بالمصداقية، وتتولّى وسائل إعلام عربية القيام بالدور نفسه نيابة عنها.
المفارقة الغريبة أنّه في وقتٍ تتحرّك فيه جامعاتٌ ومواقعُ إعلاميةٌ غربيةٌ مختلفةٌ نحو تعديل مواقفها من المقاومة الفلسطينية، وتسير تدريجياً نحو الاعتراف بأنّ الكيان الصهيوني ليس تجسيداً للفضائل الغربية، كما يروّج، ولكنّه يعتمد سياساتٍ مغامرةً محدّدةَ الهدف، تتعارض في الغالب مع المصالح الغربية نفسها... في هذا الوقت، تتجه بعض الجهات العربية نحو مزيد من التجانس مع الموقف الصهيوني، وهو ما يزيد في إثارة حنق الرأي العام العربي ضدّها، ولنتذكّر أن الزعم أنّ الرأي العام ساذج سهل الانخداع والتأثر بمختلف المؤثّرات، هو أمر تكذّبه ردَّات الفعل الغاضبة بعد تقرير "MBC" أخيراً، وهو درس عظيم لو كانوا يعلمون.
سمير حمدي
سمير حمدي