عبد الخالق فاروق... من داعية ل30 يونيو إلى سجون مصر
عاد الخبير الاقتصادي المصري عبد الخالق فاروق إلى غيابات السجن في الحادية عشرة من مساء الأحد الماضي، بعدما أخذته قوات الأمن الوطني من داخل شقته المتواضعة بمدينة "الشروق"، شرق العاصمة، إلى جهة غير معلومة، ولأجل غير مسمى.
واعتاد زوار الفجر الذهاب كثيرا إلى صومعة الخبير الاقتصادي المتخصص في إعداد موازنات الدول النامية، وصاحب أكثر من 20 مؤلفا، تركزت حول "ظهور الفساد الإداري في مصر" و"أزمة الانتماء" و"اقتصاديات الفساد"، الذي يشرح كيف جرى إفساد مصر والمصريين، و"اختراق الأمن الوطني المصري".
زادت حدة الزيارات بعدما تحول فاروق من أشد أنصار نظام 30 يونيو/ حزيران 2013 إلى عدو لدود لقياداته، التي رآها تخرج عن الخطى التي دعا بصفته باحثاً "مؤدلجاً" ناصري الهوى اشتراكي المبدأ، إلى القضاء على حكم الرئيس السابق محمد مرسي باعتباره ممثلا لحقبة تيار يميني ممثلا لجماعة الإخوان المسلمين، يراها متطرفة ولا تصلح لإدارة دولة بحجم مصر متعددة الأديان والثقافات.
تسلح فاروق بأفكاره ودراساته وأقلامه ليشهرها كسيف "دون كيخوت" في حرب غير متكافئة، حيث يرى فاروق أن قيادة 30 يونيو خرجت عن مسارها عندما تنازلت عن أرض تيران وصنافير التي خاض الشعب حروبا من أجلها، وأنها بدلت عقيدتها بالاتجاه إلى بيع الأصول والشركات العامة، وخرجت عن عباءة الاشتراكية التي أسس لها ملهمه الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، وشرعت في الإساءة للجيش عندما أقحمته بالشأن الاقتصادي، وبناء عاصمة بقروض أجنبية هائلة يتحملها الشعب بينما يعاد توزيع الثروة على نخبة جديدة، تضم جنرالات وشخصيات انتهازية، تحرم المواطنين والأجيال القادمة من الاستفادة من ثروات الوطن.
أوقعته الأيديولوجيا في تفضيل نظام عسكري على آخر جاء عبر الصناديق، وسرعان ما جرجرته المبادئ الاقتصادية إلى معارك مع النظام، حيث اعترض على قول إن "مصر شبه دولة" وإنها "دولة فقيرة"، بكتابة سلسلة من المقالات الحارقة، مدعومة بالأرقام والأسانيد التي تبين كم أن مصر دولة غنية في مواردها فقيرة في إداراتها. تسببت كلماته النارية في القبض عليه لأول مرة في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، ليقضي 11 يوماً في السجن.
وهو الذي يسكن بمدينة "الشروق"، التي اختار الإقامة فيها بشقة شديدة التواضع تابعة لمشروع الإسكان التعاوني للدولة، ضمن الوحدات المخصصة للإسكان المدعم لأعضاء نقابة الصحافيين التي يحمل عضويتها.
يروي فاروق في جلسة سابقة معه لـ"العربي الجديد"، أن تجربة المعتقل زادته إصرارا على إخبار الناس بما يدور حولهم من تحولات اقتصادية خطيرة، يخشى أن تدفع إلى حرمانهم من ثرواتهم إلى الأبد، ووقوع تلك الثروات في أيدي الصهاينة، الذين يتحكمون في الاقتصاد عبر مسارات صندوق النقد ومؤسسات التمويل التي تدفع الحكومة لبيع الأصول وتوريطها في الديون.
غلق مؤسسته البحثية في مصر أجبرته السلطات على غلق مؤسسته البحثية "مركز النيل للدراسات الاقتصادية" وحرمته من الكتابة بوسائل الإعلام المحلية، ومنعت الاستعانة به في أي مؤسسة رسمية أو بحثيه، بعد أن كان يُستدعى بصفته خبيراً في إعداد الموازنات المالية بالدول النامية، وعمل مستشاراً اقتصادياً بالجهاز المركزي للمحاسبات ومركز الدراسات الاقتصادية بالأهرام، والمركز القومي للتخطيط ووحدة التأمين بمكتب رئيس الوزراء ووزارة الاقتصاد.
تعكس رؤية فاروق دراساته العميقة للمالية العامة، التي تعلم أصولها بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة على أيدي نخبة من بقايا العهدين الليبرالي والناصري، تخرج منها عام 1979، بزمالة نخبة من الخريجين، انفض أغلبهم عن الناصرية والاشتراكية وتحولوا إلى "الرأسمالية المتوحشة"، فأصبح منهم كبار رجال الأعمال ووزراء ومستشارون في عهدي مبارك ونظام 30 يونيو.
عمق الخبير الاقتصادي رؤيته بدراسات عليا في اليابان وكلية الحقوق، لذا نراه يطلق على أحد كتبه اسم "عريضة اتهام ضد الرئيس"، ليشرح فيه كيف تهدر الحكومة أموال الموازنة العامة على مشروعات بالعاصمة الإدارية وغيرها، ثم لا تلبث أن تباع ليستفيد منها قطاع بعينه وشخصيات محددة دون أن تعود خيراتها إلى الميزانية العامة، التي تأتي 70% من إيراداتها من جيوب الفقراء والطبقة المتوسطة ممن يتحملون عبء الديون الأجنبية التي تقترض من أجلهم.
يعتقد الخبير الاقتصادي أن من يقول إن مصر دولة فقيرة، فهو يردد أكذوبة كبرى تروجها جماعات الفساد وعدم الكفاءة، التي تورط الدولة في الديون وتدفع بالأجانب إلى وضع أيديهم على قناة السويس والنفط والغاز والمؤسسات العامة. يعلق فاروق آمالا واسعة على الخبراء والعقلاء، الذين يعلمون أن مصر في خطر، لأن مواردها توجه بطرق غير مدروسة إلى مشروعات لا تستفيد منها سوى النخبة الجديدة والتي استفاد بعضها من فساد نظام الرئيس السابق حسني مبارك وما زالت قادرة على الولوج إلى سدة السلطة، بينما يفرض التقشف على التعليم والصحة وصغار الموظفين ويسقط حق العمال في عمل وأجر كريم.
يؤمن فاروق بأن مشكلة مصر ليست في غياب الحلول والبدائل لاتخاذ القرار الصحيح في صالح الشعب، وإنما تحتاج إلى القيادة القادرة على اتخاذ قرارات صعبة، في مواجهة سلاسل الفساد وجماعات المصالح الضارة، والحد من تبديد ثروات الدولة، والاقتراض الذي يجري بهدف تغطية العجز بالموازنة العامة، بينما يحمل أعباء ورسوما وضرائب وجباية على الفئات الفقيرة والطبقة الوسطى.
يبدي فاروق حسرته على تحول مصر إلى دولة تستجدي المال من الآخرين، يبحث قادتها عن التمويل من الخارج لدعم مشروعاتهم الخاصة، بينما لا يظهر أثره على المواطنين، بما يجعل الحكومة تصدر أرقاما مختلفة عن حجم النفقات على المشروعات الكبرى التي أسندت بالأمر المباشر، لعدد محدود من الجهات والمقاولين، المحليين والدوليين، بما يدفع مصر إلى أزمة شديدة الخطر.
يصف الأزمة الاقتصادية الخانقة الممتدة على مدار سبعة عقود، بأنها بدأت بأزمة نمو تشكلت في عهد عبد الناصر الذي أبدى تحديا للاستعمار الغربي، فجعل من إسرائيل والدعم الأميركي لها وسيلة لضرب الاقتصاد، ثم تم تحويل البوصلة الاقتصادية من الاشتراكية إلى الانفتاح الفوضوي في عهد الرئيس السادات، تسبب عدم انضباطه في قيام مظاهرات الخبز في يناير/ كانون الثاني 1977، ثم انهار نظام مبارك أمام ثورة "عيش حرية عدالة اجتماعية" في 25 يناير/ كانون الثاني 2011، بعد 30 عاما من التخبط، بينما الأزمة الحالية يرجعها إلى استبعاد أهل الكفاءة وتقريب مجموعات المصالح الضارة، التي تهتم ببيع كل ما تملكه الدولة، وتنحية دورها وتنفيذ خطة جاهزة ضمن "أجندة شيطانية" لا نعلم من وضعها، بينما نرى مساراتها ونتائجها السيئة تجري على الاقتصاد وجميع مناحي الحياة، حسب فاروق.