صورة مختلفة للاقتصاد الأردني

أصدر وفد صندوق النقد الدولي يوم العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2024 بياناً صحافياً على لسان رئيس الوفد يقيّم فيه نتيجة المشاورات مع المسؤولين المعنيين في الأردن. وجاء الوفد ليجري هذه المشاورات وفقاً للمادة الرابعة من اتفاقية صندوق النقد الدولي الموقعة عند تأسيسه عام 1944. وهذه مشاورات يجريها موظفو الصندوق مع الدول الأعضاء فيه مرة كل سنة، حيث تجمع المعلومات والإحصاءات لتقييم مسيرة اقتصاد تلك الدولة التي يزورها الوفد.


أما الهدف الآخر للزيارة فهو من أجل إجراء المراجعة لتقييم استجابة الأردن لمتطلبات الصندوق التي وافق بموجبها المجلس التنفيذي للصندوق على تقديم تسهيلات ائتمانية ممتدة يوم العاشر من شهر كانون الأول لهذا العام 2024، وتمتد إلى العام 2028، ويتعهد الصندوق بموجبها بتقديم مساعدات مالية ميسرة للأردن بمقدار يصل إلى 1.2 مليار دولار على مدى أربع سنوات.


والأردن عادة ودائماً يستنفر الباحثين والفنيين من اقتصاديين وماليين يعملون لدى البنك المركزي ووزارة المالية ووزارة التخطيط من أجل الإجابة عن استفسارات بعثة الصندوق، والدفاع عن الإجراءات التي اتخذت. ومع أن مشاورات هذا العام شهدت بعض النقاشات الساخنة، لكن المعلومات التي وردت على لسان بعثة الصندوق من خلال البيان الصحافي لرئيس الوفد كانت إيجابية جداً.


وقد ورد في ذلك البيان أن الأردن سيحقق هذا العام، ووفق المعلومات المتاحة لأول عشرة أشهر، نمواً حقيقياً في الناتج المحلي الإجمالي سيبلغ 2.3% مقابل نمو بلغ 2% خلال العام 2023، والذي تراجع فيه النمو عن العام 2022. ولذلك، يعكس معدل النمو البالغ 2.3% نمواً في دخل الفرد يقدر 1.3% عام 2024، و 0.37% عام 2023 والرقم نفسه للعام 2022. بمعنى آخر، لم ينْمُ الارتفاع في معدل دخل الفرد الحقيقي إلا بحوالي 0.50% خلال السنوات الثلاث المنتهية بهذا العام الحالي.


أما معدل البطالة في الأردن بين القادرين على العمل والراغبين فيه فقد تراجع إلى 21.4% من 23% في نهاية العام الماضي. أما الإنتاجية، فإنها قابلة للتحسين ولكنها تقدمت في الأردن بنسبة 1.17% خلال العام 2021 عن العام الذي قبله، ولكن أقل من زيادتها عام 2020 والتي زادت بمقدار 1.8%. ومع أن هذه الإحصاءات في حاجة إلى تحديث، لكن هناك أمور خارجة عن الوضع في سوق العمل تجعل معدلات الإنتاجية قابلة للتحسين. وهذه القضية وحدها في حاجة إلى تمعن من قبل الإدارة الحكومية. ولتحسين الإنتاجية، لا بد من تحسين وسائل التدريب التي بدأت تنال الاهتمام بها من قبل قيادة الدولة. وكذلك تحسين مناخ العمل أمام المرأة، وإدخال بعض التكنولوجيا الحديثة على الإنتاج.


ويقول البيان الصحافي الصادر عن رئيس وفد الصندوق إنه بالرغم من ظروف الحرب السائدة في المنطقة والتي تزداد اتساعاً وعمقاً، وبالرغم من انحصار المساعدات التي يحتاج إليها الأردن مقابل أعداد اللاجئين الذين يستضيفهم، أبدى الاقتصاد مرونة عالية وإصراراً على الإصلاح الاقتصادي يستحقان التقدير من صندوق النقد الدولي.


والحكومة الجديدة برئاسة د. جعفر حسّان الذي سبق أن عمل وزيراً للتخطيط ونائباً لرئيس الوزراء ومديراً لمكتب الملك عبد الله الثاني لعدد من السنوات يتفهم التحديات التي يواجهها الأردن، والمصائد الاقتصادية فيه. البعض قد يسميها مصائد (Traps) وأنا أفضل أن أسميها معضلات أو Paradoxes ، فالأردن من ناحية يريد الحفاظ على استقرار الدينار الأردني، فيلجأ إلى إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة بثلاث نقاط مئوية عن الفائدة الأساسية على الدولار. وقد نجحت سياسة التشدد النقدي في إبقاء العملة الأردنية (الدينار) مستقراً خاصة حيال الدولار. وفي المقابل، قد أوقع هذا التشدد الكثيرَ من المؤسسات والأفراد الأردنيين في مشكلات نقدية مكلفة جعلت أسعار الأسهم متدنية قياساً للمردود، ولم تفسح فرص الاستثمار أمام ارتفاع كلف الاقتراض وكلف الترخيص والرسوم الحكومية وتعددها، هذا عدا عن الإجراءات التحفظية التي تتخذها بعض الدول المجاورة حيال السلع والخدمات الأردنية المصدرة إليها.


وقد جرب الأردن أن يخرج من هذه المعضلة عن طريق تخفيف بعض الضرائب لكي يسهل الحياة أمام المواطن.


 فقام عام 2023 بتخفيض الجمارك على السيارات الكهربائية، فتسارع الناس إلى شرائها بأعداد كبيرة قللت من دخل الحكومة. ولذلك تحمَّلت الحكومة السابقة برئاسة الدكتور بشر الخصاونة مسؤوليةَ رفع الجمارك على السيارات الكهربائية، في الوقت الذي رفعت فيه سعر الكهرباء ما يجعل هذه السيارات أكثر كلفة جارية.


ورفعت حكومة الخصاونة أيضاً أسعار السجائر وبدائلها مثل السجائر الإلكترونية والتمباك المستخدم في الأراجيل. وهنا ظهرت معضلة أخرى أمام الحكومة وهي أن ما تجنيه من ضرائب ورسوم خاصة على المشتقات النفطية والسجائر والمشروبات الغازية يبلغ حوالي 3.5 مليارات دينار أردني، أو ما يقارب من 40% من دخلها الضريبي. وهذه نسبه مرتفعة بكل المقاييس لأن مثل هذا الرقم يجعل الحكومة صاحبة مصلحة في زيادة الإنفاق على البنزين والديزل والسجائر والمشروبات والعصائر غير الكحولية، والتي يعزى إليها ارتفاع نسب أمراض السرطان والزهايمر والرئة والجهاز الهضمي.


وعليه، فإن الحرب على غزة والضفة الغربية المحتلة ولبنان قد كشفت الغطاء عن الهشاشة في مصادر الدخل الحكومية. ويقول بعض المعلقين إن الاحتجاجات التي يعلنها تجار السجائر والمشروبات الغازية وتجار السيارات خاصة في المناطق الحرة ستكون مؤقتة، وسوف يقبلون بالأمر الواقع في نهاية المطاف. وكذلك، سوف يعود المستهلك الأردني إلى أنماطه الاستهلاكية المعتادة. قد يكون في هذا الرأي صوابية معقولة، ولكن رفع أسعار سيارات الكهرباء وسعر الكهرباء قد يدفع كثيراً من الناس إلى صيانة سياراتهم إلى أكثر مدى ممكن، أو شراء سيارات مستخدمة لأنهم لا يقدرون على تحمل كلف الاقتراض من البنوك. كل هذا الكلام منطقي، ولكنه يبقى خاضعاً لمخرجات السوق التي ستدعم هذا الرأي أو نقيضه.


وفي ضوء كل هذه الحقائق، قد قررت بعثة صندوق النقد الدولي أن توصي بتقديم القسط المستحق للأردن من الوسيلة المالية الممتدة بمقدار 131 مليون دولار، أو حوالي 97 مليون وحدة حقوق سحب خاص. وهو ليس بالمبلغ الكبير. ولكنه يعطي الأردن مصداقية أمام المؤسسات المالية الكبرى، وتحسن من مركز الأردن الائتماني، والذي سيؤدي إلى تخفيف كلف الاقتراض الأجنبي عليه. وقد قامت مؤسسات مثل " موديز"، وَ" فيتش" برفع تقييم الأردن إلى -BB، وإذا رفع مستقبلاً إلى -BBB أو BB، فسيكون لذلك أثر إيجابي على دولة ازدادت ديونها في السنوات الأربع الأخيرة من حوالي 40 إلى أكثر من 50 مليار دولار، أو ما يقارب 117% من ناتجه المحلي الإجمالي على أقل تقدير.


الصورة الاقتصادية في الأردن تعطي للقارئ الحصيف قراءة إيجابية، ولو طلب مني أن أقدم في جملتين خلاصة المكابدة والمعاناة الاقتصادية في الأردن لقلت باختصار مفيد " ظلم الجيران، ونكران الأصدقاء، وتقاعس السياسات عن حل المشكلات الأساسية التي نأمل أن نراها تتجه نحو الإصلاح الحقيقي لإدارة الموارد، وتحسين التعليم والخدمات، ورفع إنتاجية العمال، وتعميق آليات الحوكمة. ولو سألني أحد عن الأردن وكيف استطاع أن يتكيف مع كل المشكلات الخارجية العميقة التي واجهها وانعكاساتها العميقة على موارده وخططه لقلت ما يلي:


" أرجوك أن تغمض عينيك، دعنا نعد إلى عام 2010 قبل اندلاع الربيع العربي، حين كانت أبواب الأردن التجارية مفتوحة مع الجوار، والمساعدات والتعاون العربي أفضل حالاً، والدول التي نتاجر معها أو من خلالها آمنة مطمئنة، وعدد سكان الأردن لم يكن يتجاوز7 ملايين نسمة وكان من المفروض أن يصل العدد إلى 11.5 مليون نسمة عام 2035 على أبكر حد. والآن افتح عينيك وانظر لترى أن الأردن قد وصل إلى 11.5 مليون قبل الموعد المخطط له بأحد عشر عاماً، فكيف استطاع الأردن أن يستوعب هذه الزيادة البالغة حوالي 70% من سكانه خلال سبعة أعوام ويوفر لهم الماء والسكن والعلاج والتدريس، وأن يفعل ذلك من دون الإسفاف بالخدمات، أو من دون أن يشعر الناس أن الأردن لا يوفر حياة كريمة لضيوفه أحسن بكثير من دول أغنى منه بالموارد الطبيعية والمالية.


الأردن يستحق التقدير، وصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي لا يمنحان الأردن مديحاً لم يجنه بكدّه، وحلمه، وحكمته وحسن قيادته