اللغةُ... مكمنُ الحضارةِ العربية!
لا تنبعُ أهميةُ اللغةِ العربيةِ، من محبَّةِ أبنائِها لهَا فحسب، فهذا دافعٌ يفرضُه الانتماءُ وتُلزِمُهُ الهُويَّة، وهو من المُشتركاتِ التَّي يتوافقُ عليها البشرُ كلُّهم، وإنّما الأمرُ عائدٌ أيضاً إلى تلكَ السياقاتِ التاريخيةِ التي تخلّقت فيها العربيّة، وحَتَّمَت عليها أن تكونَ لغةً ثرية، بل غاية ما تكونُ عليه اللغاتُ من ثراءٍ معنًى ومبنًى.
ولعلَّ من نافلةِ القولِ، الإشارةَ إلى ما كانَ عليه العربُ من فقرٍ في الحضارةِ المادية، قبلَ ظهورِ الإسلام، حيث كانتِ الجزيرةُ العربيةُ تعيش قسوةً في مناخِ مناطقِها وأغلبِ تضاريسِها، وهو ما فرض ذاك الفقرَ الحضاريَّ المادي، في مجالات البناءِ والعمارةِ والتشييدِ والابتكار، ناهيك عن نُدرةِ المناخِ الخلَّاب، والطقسِ المعتدل، والأرضِ السَّهلةِ الخصبة، وتوفّر الماءِ في الواحاتِ، والبحيراتِ والأنهارِ والجداولِ، كحالِ تضاريس أغلبِ المناطقِ التَّي تسكنُها الشعوبُ.
وأمامَ نُدرةِ عناصرِ الإبداعِ الواقعيّ العامّ، مالتْ كفّةُ الخَلقِ والابتكار، صوبَ عناصرِ اللغة: أصواتِها وإيقاعِها وبلاغتِها، فكانتْ فضاءَ العربيِّ، الذي صنعَ فيه حضارتَه، وتميّز بها.
ومع أنَّ الكتابةَ والقراءةَ، لم تكونَا منتشرتيْن بينَ العرب، حتى بُعَيْد مجيء الإسلام، فإنَّهما لم تمنعَا العربيَّ من الإبداع في لغتِه وبها، بل لم تمثّلا بالنسبةِ إليه، الوسيلةَ الوحيدةَ للتعبير عن خوالجِ نفسِه، وتدبيرِ أفكارِه ومعارفِه وثقافتِه.
لقد كانَ قادةُ الفكرِ في المجتمعِ العربيّ آنذاك، يصوغونَ أفكارَهم باقتدارٍ، مع أنَّ جلَّهم، لم يكن يحسنُ القراءةَ والكتابة.
ويبدو أنَّ المجتمعاتِ العربيةَ، لم تكن تواجهُ أيَّ حاجةٍ حقيقيةٍ لوفرةِ من يقرأ ويكتبُ، ولمَّا لم تبرز هذه الحاجةُ، لم يجدِ العربُ أنفسَهم مضطرينَ لمعرفةِ ما لا يحتاجونَه، حاجةً حقيقية في حياتِهم اليومية.
وفي مقابلِ ذلك، حَضرَ الشّعرُ، بوصفِه الفنَّ الرئيسَ، من فنونِ اللغةِ عند العرب، وعلمَهم الذي لم يكنْ لهم علمٌ أصحُّ منه، على حدّ قولِ عمرَ بنِ الخطاب رضيَ اللهُ عنه. كانَ حضورُه طاغياً، بينَهم، وبهِ كانوا يُوثِّقون أيامَهم، وأحداثَهم، وحروبَهم، ومعاركَهم، وبالشّعرِ كانُوا يفخرونَ ويتفاخرونَ على بعضِهم بعضاً، وبهِ كانوا يمدحونَ بعضَهم، وبه يتهَاجونَ أيضاً.
كانَ الشّعرُ يُلبّي كلَّ حاجاتِهم الرئيسةِ والفرعية، ولك أن تتخيَّلَ، كيفَ كانَ هؤلاءِ يحترمونَ ويقدّرون الشَّاعرَ المجيدَ، وكيفَ ستكونُ منزلةُ الشَّاعرِ الفحلِ في قبيلتِه، وبين قومِه.
هذه المنزلةُ الرفيعةُ للشَّاعر، كانت تحرّضُ كلَّ عربيّ، على بذلِ كلّ ما يستطيعُ من جهدٍ، لعلَّه يكونُ شاعراً مفلّقاً، يُشار إليهِ بالبَنان، ويُلجأ إليه في الملمَّات.
وإلى جانبِ الشّعر، وبهِ، حَضرتِ الخطابةُ، بوصفِها فنّاً من فنونِ اللغة، فهي الوسيلةُ الإعلاميةُ الرئيسية، التي يمكنُ عبرَها إيصالُ الأفكارِ إلى الناس، وكانَ إقناعُ المستمعين يستلزم توافر الخطيبِ على أساليبَ بديعيةٍ تجذبُ الانتباه، بل وتسلبُ الألبابَ، فإذا سلبَ الخطيبُ لبَّ المستمع، باتَ إيصالُ الأفكارِ إليه والتأثيرُ فيه، وتغييرُ آرائِه، أموراً سهلةً، لا تحتاجُ إلى مزيدٍ عناءٍ وتكلّفٍ.
وفي الشّعرِ والخطابةِ، تنافسَ كلُّ من تمكَّنَ في هذين الفنين، على أن يبتكرَ في منتجِه داخلَ الفن، ما يكون من حيث القوةُ والسلاسةُ والإيجازُ والإعجاز، سبباً في سهولةِ حفظِه، ويُسر نقلِه، من شخصٍ إلى آخر، حتى يكونَ انتشارُه بين النَّاسِ سريعاً، وسيرُه في الآفاق عَدْواً وركضاً، لا سيراً مجرَّداً.
وهذا يعني أنَّ المبدعين العربَ القدامى، من الشُّعراءِ والخطباء، كانوا آنذاك، يتنافسونَ على ما يُسمّى اليوم، بلغة السوشال ميديا (الترند)، وهو الموضوعُ الأكثرُ انتشاراً... ولكنْ بمقاييسِ عصرِهم، وآلياتِ زمانِهم. ولك أنْ تتخيَّلَ أنَّ معيارَ النبوغ، عندَ العربِ المتقدِّمين، كانَ القدرةَ على نظمِ الشّعر المميَّز في عمرٍ متأخّر، لمنْ لم يقلْ شعراً في بواكيرِ شبابِه!