«6 أكتوبر»: قرار الثغرة لا يقل أهمية عن قرار العبور
هل انتصرت فرنسا على ألمانيا في الحرب العالمية الأخيرة؟ وما نتيجة حرب الصين واليابان الثانية؟ وهل انتصرت أميركا في حروب الشرق الأقصى؟
لن تقدم إجابة صحيحة ولو حاولت، حيث السؤال خطأ في مبدئه. والصحيح: ماذا حققت دولة من حربها؟ هذا سؤال يردع أقوى دولة في العالم عن خوض حرب لمجرد الانتصار العسكري. ويحفِّز أصحاب القدرة العسكرية الأضعف فيدفع التاريخ بالأمل. في النهاية، المعيار: ماذا تحقق من أهداف؟
فماذا حققت مصر في حرب السادس من أكتوبر (تشرين الأول)؟
أولاً، قرار الحرب. لا يتمنى إنسان أن يكون في موقع القيادة المصرية بعد حرب 1967. هزيمة كبرى على المستوى العسكري، واحتلال مساحة صعبة الدفاع من أرض البلد ومن معنوياتها.
لكن مصر بدأت حرب استنزاف بجنودها النظاميين. شعبها تبرع من مدخراته المحدودة، وفنانوها طافوا العالم يدعمون المجهود الحربي. وقيادتها اتخذت قرارات مفاجئة غربلت بها تحالفاتها، ثم خطة تمويه استراتيجي، ثم حرب.
إنْ سألتني: ماذا أحب في 6 أكتوبر؟ سأبدأ بهذا؛ بأننا أمة اكتشفت نفسها. مصر دولة كأهل الكهف، ضاربة في الزمن بحساب السنين، حديثة العهد بحساب السياسة المعاصرة. لم يتخذ مصري لها قراراً بهذا المستوى طوال 2500 عام. وبينما تفتح عينيها للشمس ورئتيها للهواء، وجدت نفسها في عالم مضطرب، ليست خبيرة في لغته ولا تملك أدواته. عقلها مشوَّش، لا تعرف من هي. وعليها أن تتعلم بثمن باهظ.
في التاريخ العبراني انشق البحر لبني إسرائيل أمام المصريين بمعجزة خارقة للطبيعة، تحول فيها الماء من سائل إلى صلب. في 6 أكتوبر، اخترق المصريون الصُلبَ بالماء، وعبرنا على ماء تحصن بخط دفاعي طوله 160 كيلومتراً، قيل لنا إنه سيُحيل الماء ناراً. فعلنا ذلك في زمن لا معجزات فيه. على مسمع ومشهد من العالم، على عادة تاريخنا ذي الشواهد، من الأهرام إلى المعابد والمسلات.
وأحب التنوع داخل البلد الواحد، الآن بالذات ونحن محاطون بعالم من الميليشيات والدوافع الطائفية أكلت الدول من حولنا. حاربنا بجيش من كل انتماء ديني وجغرافي وطبقة اجتماعية. كلهم جعلوا مصر أولاً. ما من عائلة في بوصلة مصر لم تقدم من أبنائها في الحرب.
والمفاجأة أنني أحب النضج السياسي في أثناء «الثغرة». حدوث اختراق من الخصم كان وارداً، بالنظر إلى فارق القدرات العسكرية والاستطلاعية والتحالفات الدولية. لكن قرار السادات في مواجهة الثغرة كان تجسيداً لتفكير استراتيجي، رابط الجأش، وبعيد عن نرجسية النصر العسكري في جولة. تخيلوا لو استجاب السادات للضغوط وسحب القوات من شرق القناة ليتعامل مع الثغرة، لانحرفنا عن الهدف الأكبر، وربما أعادت إسرائيل احتلال سيناء. أدركت القيادة بوعي أن النصر لا يقاس بالمعركة وحدها، بل بما تحققه تلك المعركة لأمة بأكملها.
أما أن إسرائيل وصلت إلى الكيلو 101، فلتذهب إلى القاهرة إن شاءت. لسارت نائمة إلى حتف محتوم، في مواجهة أهلية، وَلَفَقَدَ جيشها النظامي ميزته الكبرى أمام ميزتنا الكبرى. وَلَعَادلنا العتاد العسكري بالبشر.
أتعجب إذن من طوائف من المتفلسفين، الذين يحبون كل عام تخريب احتفاء المصريين بـ6 أكتوبر، مذكِّرين إيّانا بأننا لم ننتصر عسكرياً. ننتصر عسكرياً على مَن؟! على إسرائيل أم على الولايات المتحدة التي تضمن صراحةً تفوق إسرائيل على مَن حولها مجتمعين؟ ما هذه الشروط التعجيزية المثبطة المحبطة! لقد حققنا في حدود قدراتنا إنجازاً عسكرياً وسياسياً باهراً. بهذا تقاس الحروب.
انتصرنا على الخوف، وعلى التعجيز، وعلى دعاية أمثالكم. انتصرنا على حمق القرارات، والرعب من نتائجها، ونرجسيةٍ تزيِّن أوهاماً. لسنا قوة عظمى فنُحاسَب بهذا المعيار. بل أمة من الفلاحين كان أكثر من نصفها أمياً. ملاكم يريد فقط أن يثبت أنه ليس صيداً سهلاً.
وبهذا وذاك حققنا مرادنا المادي وهدفنا من الحرب. إسرائيل ليست جمعية خيرية. لو علمَتْ أن في قدرتها الحفاظ على سيناء محتلة، بل على شبر واحد من أرضنا محتلاً، لساومت عليه واختبرت قدرتنا، لاحتفظت بعشر مستوطنات بَنَتْها ونقلت إليها عائلات، ولاحتفظت بمشاريع استثمرت فيها. لقد خضنا الحرب مع إسرائيل تحت قيادة اليسار ممثلاً في غولدا مائير، وعقدنا السلام مع إسرائيل تحت قيادة اليمين ممثلاً في مناحم بيغن. لا هذا ولا تلك، لا الحمائم ولا المتشددون، لا العلمانيون ولا التوراتيون، اعتقدوا أن لديهم من الأوراق ما يضغطون به علينا لنقبل بأقل مما أردنا؛ استرداد كامل أرضنا، وبدرجة لا تقل أهمية؛ تحقيق السلام.
6 أكتوبر أعاد تعريف معنى النجاح في الحروب، ليس فقط بالمعارك العسكرية، بل بما يُنجز على الأرض وفي السياسة، وما يتبقى منه من أثر على الحياة اليومية للمواطنين.