انكشاف العرب فكرياً



من يتابع الجدل والنقاش السياسي والإعلامي العربي، وحتى السجالات على مواقع التواصل الاجتماعي، يُصَب بالذهول لحجم الاستقطاب والصراع الداخلي، ليس فقط على صعيد الأجندات السياسية للأنظمة العربية، بل حتى بين النخب المثقفة والسياسية وبين الشعوب وفي داخل المجتمعات نفسها، الأمر الذي ربما تجلّى، بدرجة كبيرة، في الموقف من إيران والقوى المرتبطة بما يسمّى "محور الممانعة"، وما نراه من تجاذب كبير حوله، لكنّه لا يتوقف عند ذلك، إذ يمسّ عديداً من الأحداث والقوى والقضايا الرئيسية في عالمنا العربي اليوم.

المشكلة الأولى في الأزمة الفكرية العربية، في هذه اللحظة، المقصود في ما يتعرّض له الفلسطينيون واللبنانيون من عدوان إسرائيلي سافر، أنّنا نتجاوز التوصيف الدقيق الواقعي لما يحدُث، ولدراسة الديناميكيات الفاعلة، وننتقل مباشرةً في سجالاتنا إلى المواقف المعلّبة، وتسطيح المشهد والتعامل بمنطق عاطفي؛ سواء مع إيران وحلفائها أو قوى إقليمية تابعة لها أو ضدّهم على السواء. تميل تعليقات وتحليلات عربية كثيرة، نخبوياً وشعبياً، إلى التعميم والمواقف المطلقة، وهو أمر لا يخدم بناء منظور فكري استراتيجي قادر على الإجابة عن أسئلة رئيسية ومهمة، تعطي عمقاً لأي نشاط سياسي أو مواقف سياسية، فالسياسة بلا إطار فكري أشبه بالعمل بلا خريطة طريق وأهداف مرسومة ومدروسة سابقاً!

خذ، مثلاً، الموقف من حزب الله وإيران وما يحدث اليوم. نحن أمام تياريْن رئيسين كبيرين، وحالة استقطاب شديدة، يرى الأول أنّ إيران عنوان المقاومة والمواجهة مع المشروع الصهيوني والإسرائيلي والإمبريالي الأميركي، وهي التي تتصدّى لهم، بينما الدول العربية في سباتٍ عميق. وبالتالي، يجري تبرير ما تقوم به إيران من هيمنة إقليمية على حساب الدولة الوطنية، في العراق ولبنان وسورية، والروح الطائفية التي حرّكت إيران، ومعه حزب الله في ملفاتٍ عديدة، بخاصة اللبناني والسوري، ذلك كلّه يسقط لدى هذا التيار الفكري بذريعة أنّ إيران هي الطرف الإقليمي الذي يتصدّى لإسرائيل ويتبنّى خيار المقاومة ويساند حركة حماس.

على الطرف الآخر، ثمة من يرى إيران وحزب الله والقوى المختلفة، من منظور طائفي أو عبثي، ومن يرى إيران ليست إلّا دولة تبحث عن مصالحها القومية، وتريد أن تكرّس نفسها قوة إقليمية، وأنّها مع حزب الله قاما بمجازر بحق الشعب السوري، وأنّ إيران تتعامل مع كل هذه القوى والملفات بوصفها أوراقاً في اللعبة الإقليمية لتستخدمها في الصفقة السياسية، وفي ترسيم موازين القوى في المنطقة.

الطريف أنّ لإيران فعلاً الوجهين السابقين، وهذا طبيعي في الشؤون السياسية والدولية، والظواهر السياسية تتسم عموماً بدرجة كبيرة من التعقيد، وعصيّة على التسطيح. وبالتالي، من الخطأ أن نأخذ جانباً واحداً أو أن نقيس الأمور بمنطق الأبيض والأسود، الخير والشرّ، في التعامل مع الساحات الدولية والإقليمية والمصالح الاستراتيجية، فاللون الرمادي سيد المشهد، بخاصة في مثل المشهد الحالي في العالم العربي، إذ تتداخل الأبعاد الدينية والسياسية والاقتصادية بصورة كبيرة في الوقت نفسه!

الحال نفسها يمكن أن تنطبق على ما نراه من جدالٍ وسجالٍ بشأن الموقف من طوفان الأقصى وما بعده، هل مثّل منعرجاً إيجابياً خدم الشعب الفلسطيني والحالة العربية أم العكس شكّل نكسة أو نكبة أخرى للفلسطينيين وأطلق المارد الخطير الصهيوني، الذي كان ينتظر فرصة مثل هذه؟! تحليل ذلك مهم، لكن الأهم أن نتحلى جميعاً بالموضوعية والتمييز بين النسبي والمطلق والاستراتيجي والتكتيكي وما هو ممكن وواقعي وما هو مثالي وأمنيات بين ما هو أيديولوجي وطائفي وما هو مرتبط بمصالح الشعوب ومستقبلها، فأيّ تأطير فكري لما يحدُث لا يأخذ الاعتبارات السابقة بالاعتبار سيقودنا نحو قراءة خاطئة لما يحدُث وتفكير خاطئ ومغلوط في تصوّرنا للمستقبل.