أين ذهب "الرفاق" في الأردن؟

تناوبت وتيرتَا الغضب والتخوّف على حديث مشاركين ومشاركات في جلسة ضمّت تيارات حزبية مختلفة، أكثرها من التي أُسّست (أو صمّمت إن شئت) حديثاً في الأردن، تعليقاً على نتائج الانتخابات النيابية أخيراً، التي جرت ضمن أجواء اتفق الجميع على نزاهتها، حتّى أنّ بعضهم وصف هذا بـ"المفاجأة"، مقارنة بفوز حزب جبهة العمل الإسلامي (الإخوان المسلمين)، الذي كان بالنسبة لمراقبين عديدين متوقّعاً، بل ضرورياً للمشهد السياسي الأردني، الذي صُمّم ليكون اليوم مختلفاً بمخرجات إصلاحية توافقية جِدّية وجديدة.

لا أعرف مدى مصداقية أو أحقّية أن يغضب تيّار يفضل أن يُطلق على نفسه "مدنياً"، حتّى لو لم يكن منظماً بالفعل في الأحزاب الجديدة والقديمة التي تتبنّى هذا النهج، من نتائج ممارسة ديمقراطية جرت بمعايير تنظيمية ديمقراطية عالية، وبمراقبة محلّية ودولية واسعة، وهو لم يكن له يد أصلاً في تشكيلها، إذ لم تتجاوز نسبة التصويت في عمّان الغربية 3%، وكانت الأقلّ في العاصمة بالمجمل، والأعلى بالبادية والجنوب، فكيف لمن لم يذهب للصندوق أن يعترض على نتائجه، وكيف لمن لم يكلّف نفسه عناء التواصل الحقيقي مع القواعد الشعبية أن يعترض على خياراتها؟!

لماذا لم تستطع تلك التيّارات المناوئة أو المعارضة للفكر الديني المحافظ في الأردن تخطي حتّى العتبة الانتخابية؟

لا يعني ذلك أنّ الجميع فعلوا ذلك، ولا أنّ الجميع غير سعيد بنتائج الصناديق، ولكن علينا أن نكون أكثر واقعية قليلاً، وأن لا تُضخَّم نتائج هي بالفعل كبيرة قياساً إلى تاريخ مشاركات الحزب الذي يمّثل "الإخوان" في الأردن، فهي بالنهاية 32 مقعداً من أصل 138 مقعداً، وهذا الرقم في اللعبة البرلمانية لا يؤثّر بشكل منفرد، فهو بالمحصلة لا يقرّ قانوناً، ولا يسقط حكومةً، ولا حتّى يستطيع الحصول على رئاسة لجنة في المجلس بالضرورة، ورئاسة المجلس بعيدة كما هو متوقّع. وهذه النتيجة بالضرورة (إن عكست نصراً لحزب الجبهة) لا تشكّل أغلبيةً ولا اكتساحاً حقيقياً على أرض الواقع، وحدثت لما لهذا التيّار من خبرة وممارسة سياسية اجتماعية متكئة على الدين عقوداً، لن يستطيع أيّ تيار التفوق عليه، أقله في العقد المقبل في الأردن، فما استُنبتت من أحزاب وتيّارات تحتاج سنواتٍ حتى يقوى عودها ويشتدّ ساقها وتنمو فروعها وأوراقها لتطرح ثمارها، ولن يستطيع أحد المراهنة حتّى إن كان هذا الثمر عجراً أو بجراً.

إذاً، فليسعد الغير بالنتائج بصمت، أو من هم من "الرفاق" أو من دعاة "الدولة المدنية " أو من تيّارات "الموالاة"، كما يحب بعضهم تسمية بعض الأحزاب الوليدة في الأردن، متحزّبين كانوا أم من الأغلبية الصامتة في التيّارات المقابلة للتيّارات المحافظة أو/و "الإخوان" إنّ صح الفصل بينهما، ويبدأون بمناقشة نتائج الانتخابات، لا وفقاً لمبدأ هندسة النتائج أو تصميم شكل المجلس سلفاً (وإن كان بالفعل لم يتم بتدخّل صريح من الدولة كما ثبت يوم الانتخابات)، ويبدأ بقراءة النتائج بشكل عكسي، ويبدأ بقراءة نتائجه هو، ومراجعة نهجه الفعلي، ليس في هذه الانتخابات، وإنّما لحقبة تعود حتى إلى ما قبل "الربيع العربي" وتحوّلاته المجتمعية والسياسية، بل إلى القرن الماضي، وبدء أفول مبادئ القومية والشيوعية والماركسية في المنطقة والعالم.

لن يستطيع أيّ تيار التفوق على الإخوان المسلمين على الأقلّ في العقد المقبل في الأردن

ويُطرَح سؤال بلا وجل، وبكل صراحة: لماذا لم تستطع تلك التيّارات المناوئة أو المعارضة للفكر الديني المحافظ في الأردن تخطي حتّى العتبة الانتخابية؟ لماذا لم تحقّق أحزاب يسارية مثلاً أرقاماً لافتةً في هذه الانتخابات؟ ماذا فقدت تلك التيارات وكسبه "الإخوان"؟ ألم يستغل الطرفان ما يحدُث في غزّة في خطاباتهم الجماهيرية على سبيل المثال؟ ألم يلتق الطرفان مع مختلف مكوّنات المجتمع؟ ... صحيح أنّ هذه التيّارات كسرت تابوها، وكسب الحزب الشيوعي على سبيل المثال أصواتاً متقدّمة في دائرة بدو الوسط، وهذا استثناء، والتصويت كما هو واضح جاء لأسباب عشائرية، بسبب انتماء أمينه العام (اتهمه بعض رفاقه بأنّه سوّق نفسه ولم يسوق الحزب)، أو سياسية بسبب عدم رغبة لون عشائري واسع بالتصويت لجبهة العمل الإسلامي. لكنّ "الإخوان" هم أيضا مارسوا مرونةً عالية، وكسروا نمطاً واكتسحوا معاقل عشائرية، فقد كسبوا مقعداً للكوتا المسيحية في عمّان، وكسبوا أصواتاً من قوميين ويساريين عريقين في الأردن. ألا يُستدَّل من ذلك أنّ من يفهم الشارع بشكل حقيقي هو من يحصد أصواتاً في الصناديق بالمحصلة؟

تقول سيّدة بسيطة، تمثل تيّاراً واسعاً في المملكة، لو أنّ الحزب الشيوعي يغير اسمه فقط "ساعتها لن أعطي صوتي إلا له، فالمبادئ بشكل عام تمثّلني ولا أضطر لحظتها للتصويت لحزب غير مقتنعة به، أو أن أحجب صوتي بالمطلق". ألم يحن الوقت أن تقتنع تيّارات اليسار في الأردن أنّ المشكلة لا بممارسات الدولة، ولا بسطوة "الإخوان" على الشارع، وإنّما بتمسّكهم بوجوه لم تتغيّر، وبنهج قديم، وطرائق عفا عليها الزمن لممارسة العمل السياسي في الأردن، حتّى بدا بعضها يهاجم نفسه من الداخل، وكيل الاتهامات من بعض رموز اليسار لبعضهم الآخر، إثر نتائج الانتخابات، مراهقة سياسية لم يقدر كثيرون من هذا التيار على تخطّيها حتّى الآن.

لا بدّ للجميع أن يعرفوا أنّ القادم من الأيام سيقلب الطاولة على كثيرين، ويتاح المجال لأن يستلم زمام الحراك السياسي والإجتماعي الشباب الذين سئموا من أحزاب وتيّارات استغلّتهم عبر شعارات رنانة، لا استمالتهم عند التأسيس، وزيادة أعداد الهيئات العامة، والأصوات في الصناديق، لكنّ النتائج لم تكن على مستوى هذا الطيف الأردني من طاقات شابّة ترغب بالتغيير الحقيقي وليس الشعاراتي.