العرب في لحظة فارقة..!

يبدو أن العرب يطبقون بمثالية مثال «الذي لا يضيع فرصة لتضييع الفرصة». وكما يَحدث، يُنظر إلى اللحظة الحالية التي أنتجتها أحداث العام الأخير على أنها إعادة تشكيل للشرق الأوسط. وفي الفوضى التي تشكلها عمليات إعادة التشكيل، يُطرح خيار أن يكون الكيان المعني موضوعا سلبيا للتشكيل يُحمَل من هُنا ويوضَع هناك، أو أن يكون مشاركا فاعلا في عملية التشكيل. ويبدو أن الاختيار محسوم في هذه المواقف، كما كان منذ انتهت ثورات محاربة الاستعمار العربية قبل قرن: نحن طوع أمركم فافعلوا بنا ما تشاؤون، والذين يعترضون ليسوا منا ولا نحن منهم. 


من الواضح أن العالم العربي يقف اليوم عند مفترق طرق حاسم. ومن الواضح أن الكيان الصهيوني، ومن ورائه حلفاؤه الأنجلو-سكسونيين المعادون تاريخيا للعرب، وخاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، يتحرك بأيد طليقة لتصفية أي مقاومة؛ أي عقبات تقف في وجه مشروع إحكام السيطرة على مصير العرب. وقد عبر رئيس وزراء الكيان ببلاغة في خطاب الأمم المتحدة عن هذا التصعيد العدواني، مستخدما نبرة انتصار واستعلاء واحتفال بالقوة العسكرية الغاشمة وعجز العالم عن إيقافه. ووراء الخطاب تكمن لحظة خطيرة للعالم العربي وشعوبه، تطرح السؤال: ما هو مصير المنطقة العربية إذا نجح الكيان وحلفاؤه الإمبرياليون في تحقيق أهدافهم؟

ستكون لانتصار الكيان الصهيوني الوحشي في هذا الصراع الإقليمي الجاري عواقب وخيمة على العالم العربي. إنه ليس مجرد اشتباك عسكري أو سياسي، وإنما مواجهة أساسية بين رؤيتين متضادتين لمستقبل الشرق الأوسط. من جهة، يستخدم الكيان بدعم من القوى الأنجلو-سكسونية، وخاصة واشنطن ولندن، كل ما لديه لفرض هيمنته النهائية على المنطقة، واختزال الدول العربية إلى كيانات تابعة، مجزأة، شعوبها منفصلة عن قيادتها، تعتمد اقتصاديا وسياسيا على ترتيبات الكيان وداعميه. ومن جهة أخرى، ثمة توق شعوب المنطقة المطول إلى مستقبل هادئ مزدهر وواعد، من دون هيمنة ولا تسليم للمصير. ولم تتحقق الحرية في أي مكان من دون تضحية ومقاومة لا تعرف اليأس. ما لم يتحقق مطلقا من دون 
في حال تمكن الكيان من سحق المقاومة الفلسطينية، وتحييد بقية الرافضين للمشروع الذي يشكل رأس الحربة فيه، سيتكرس دوره كقوة مهيمنة إقليميا تفرض إرادتها كما تشاء على جيرانها العرب من دون رادع. وسوف يصبح مشروع الصهيونية الدينية القائم على تفريغ فلسطين من أهلها وجعلها يهودية حصريا في المتناول، بما ينطوي عليه ذلك من إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم، وربما الذهاب إلى تحقيق الخريطة التي يعلقها جنود الكيان على أكتافهم، باقتطاع أجزاء من الدول العربية، وهو ما يحاولون فعله الآن في لبنان، كبداية.
وسوف يعمق انتصار هذا المشروع الإمبريالي تهميش الشعوب العربية، ويزيد من إبعادها عن فرصة المشاركة في حكم نفسها ويوسع الهوة بين طموحاتها الجمعية وسياسات حكامها الفردية. وتدرك معظم الشعوب العربية، باستثناء قلة عمياء القلب والعينين، أن القوى الأنجلو-سكسونية تنظر إلى المنطقة العربية من منظور المصالح الإستراتيجية والمكاسب الاقتصادية، ولا يمكن أن تعتبرها شريكا في التنمية والازدهار، ولا ندا في القيمة والاحترام. ويعكس دعمها المطلق لعدوانية الكيان العسكرية الإستراتيجية الأوسع الهادفة إلى إدامة انقسام العالم العربي وضعفه، بحيث لا يتمكن من تحدي الهيمنة الغربية أو التمتع بسيادة حقيقية.
لا يمكن إنكار أن الذين اختاروا مقاومة المشروع، بدءا بمقاومة تسيد الكيان الاستعماري الصهيوني، يمثلون الضوء الوحيد في عتمة الخضوع. وسوف يعني تفكيك هذه المقاومة، مهما كان حجم تأثيرها المتصور، انهيار الحصن الوحيد أمام إحكام السيطرة المطلق على الإقليم وإنهاء أي آمال متبقية في تقرير المصير. إنها الرموز المتبقية لإمكانية تغيير الواقع العربي القاتم حتى لو طال الطريق. ولن تكون هزيمتها خسارة تكتيكية، وإنما إيذانًا بانهيار آخر إمكانية عربية لمواجهة الهيمنة الخارجية وملامسة الحرية.
يجب على العالم العربي، وخاصة القائمين عليه، إدراك أن أحدا لن ينجو من عواقب التسليم النهائي للسيادة، أو تطبيع كيان مُدان بكل أنواع الجرائم الفريدة في بشاعتها، ضد العرب بالتحديد. ويبدو مشهد مراقبة العرب الهجمة الوحشية على المقاومة في فلسطين والمنطقة مثل شخص مخدر موضعيا يُشاهد أطرافه وهي تُبتر ويبتسم، معتقدا تحت تأثير المخدر أنهم يشفونه بذلك من العلل.
أثبتت التجربة أن شيئا لم يتحسن في الدول التي سالمت الكيان منذ عقود؛ الفقيرة ظلت فقيرة، بل ازدادت فقرا؛ والغنية غنية من دار أهلها وتمتلك الإمكانيات لتفعل كل شيء بنقودها. وليس هناك ما يؤيد فكرة أن «البركة» التي خص إله اليهود بها شعبه المختار ستمطر على المنطقة بثمن تسليم الكيان فلسطين وتنصيبه حاكما مطلقا مُطاعا على المنطقة. لا نجاة بإسلام الأشقاء للموت –بل والشماتة بمصارعهم أحيانا على رؤوس الأشهاد. وثمة بدائل. 
كانت التجزئة والتبعيات دائما مصدر ضعف المنطقة، وخدمة مجانية للطامعين في الهيمنة. ويمكن دائما للقادة نبذ الفردانية والطموحات الشخصية ولتركيز على التهديد الوجودي المشترك الذي يواجه شعوبهم ومستقبلها وحريتها. ويمكن العثور على عشرات الطرق للتكتل –مثل باقي الخلق- وتنظيم العلاقات التعاونية على كل مستوى، حتى لو كانت مثل هذه التحركات ستُقابل بالعداء ومحاولات الإحباط من الأعداء الواضحين لمستقبل العرب. وكانت فلسطين، وما تزال، عامل توحيد ونقطة التقاء بين الشعوب وقادتها، وطريقة لإبراز الشخصية العربية المغيبة كنقيض مُعلن لمشروع الهيمنة الغربي والإقليمي بدءا من هناك.
هذه لحظة فرز محورية بالغة الخطورة لمستقبل العرب. والذي حدد الفرز وشقيه هو قائد طليعة الإخضاع بالإبادة والقوة الغاشمة نفسه، نتنياهو، على طريقة رعاته الأميركان: إنك إما معنا في معسكر «النعمة»/ الخضوع، أو ضدنا في معسكر «النقمة»/ التمرد. وفي الحقيقة، «الحلال بيّن، والحرام بيّن» وليس بينهما مشتبهات.