المحللون والمعلقون في الأزمات..!
يتجه الناس بقوة في أوقات الأزمة والحرب إلى الاستماع للمحللين العسكريين والمعلقين على شاشات التلفزة والمواقع لمحاولة فهم ما يجري. وليس الناس متساوين في قدراتهم التحليلية أو ملَكة الحكم على مستوى التحليلات، ولذلك نسمع ونقرأ أحكامًا متفاوتة تُطلق على نوعية المحللين، عسكريين كانوا أم مدنيين. والمطلب الأساسي منهم هو «الموضوعية».
في الوضع المثالي، يُفترض أن تكون الوظيفة الأساسية للمحللين والمعلقين هي تقديم تحليل موضوعي ودقيق للأحداث العسكرية، والتحركات السياسية، بغض النظر عن انتمائهم الوطني أو السياسي او موقفهم الشخصي من الأطراف. لكن السؤال حول ما إذا كان يجب عليهم التركيز على خسائر المعسكر الذي ينتمون إليه أو على خسائر العدو يتطلب العثور على توازن دقيق بين المسؤولية المهنية والأهداف الإعلامية. وثمة العديد من الجوانب التي يترتب عليهم أخذها في الاعتبار.
يملي التحليل الموضوعي والمسؤولية المهنية على المحللين العسكريين والمعلقين ذكر الخسائر في كلا الجانبين مهما تكن. وينبغي أن يجلب اعتراف المحلل بالخسائر في معسكره ثقة الجمهور به وتصديقه. كما أن هذا النوع من التحليل يزود المشاهدين بصورة واضحة، يستحقونها، عن تطور الأحداث وتداعياتها. ويشير البعض إلى أن النقاش حول الخسائر الذاتية يحسن الأداء العسكري إذا عرض المحللون المتخصصون رأيًا سديدًا وذكيًا.
يملي التحليل الموضوعي والمسؤولية المهنية على المحللين العسكريين والمعلقين ذكر الخسائر في كلا الجانبين مهما تكن. وينبغي أن يجلب اعتراف المحلل بالخسائر في معسكره ثقة الجمهور به وتصديقه. كما أن هذا النوع من التحليل يزود المشاهدين بصورة واضحة، يستحقونها، عن تطور الأحداث وتداعياتها. ويشير البعض إلى أن النقاش حول الخسائر الذاتية يحسن الأداء العسكري إذا عرض المحللون المتخصصون رأيًا سديدًا وذكيًا.
لكن التركيز من جهة أخرى على خسائر العدو وإنجازات الحليف يخدم مجموعة من الأغراض التي يصعب التقليل من وجاهتها. على سبيل المثال، يساعد هذا التركيز بالتأكيد في تعزيز الروح المعنوية للجمهور والمقاتلين. كما يؤثر إبراز خسائر العدو على معنويات العدو نفسه ويضعف دعمه الداخلي، خاصة إذا كان العدو يتابع نفس الوسائل الإعلامية. ويساعد تسليط الضوء على الإنجازات في حشد الدعم الشعبي للجهود الحربية وتبرير السياسات العسكرية.
في الحرب الحالية التي يواجه فيها الفلسطينيون وحلفاؤهم العدو الصهيوني وحلفاءه، يُلاحظ تركيز العدو الشديد على مسألة الإعلام والتحليل والتعليق السياسي، وحتى تصريحات المسؤولين. والطابع الغالب في كل هذا هو التكتم الشديد على الخسائر والتأكيد على القوة وتبرير الحرب، وإبراز المعلقين المتعصبين للسياسة الرسمية، وتشجيع الدعاية من خلال الصحف والمعلقين الموالين في الخارج، والتحكم في صياغة الخبر. وثمة رقابة وحظر كثيف على منشورات التواصل الاجتماعي الفردية ومحاسبة عليها. وبذلك، تعتبَر العدو إدارة الإعلام جزءًا أساسيًا من إدارة الحرب. ولوحِظ أيضًا أن العدو يضيق بالمعلقين والمحللين العرب الذين يبثون روحًا إيجابية، وهو شيء جدير بالملاحظة لدى تقييم أداء المعلقين.
وهكذا، يمكن القول، من جهة، أن الإفراط في التركيز على الخسائر الذاتية يضر بالروح المعنوية ويُضعف الدعم الشعبي، في حين أن التجاهل المفرط لها، من جهة أخرى، يمكن أن يُعتبر تلاعبًا بعواطف الجمهور أو خداعًا له. وفي الوضع المثالي، يطالِب العقلانيون، محقين من حيث المبدأ، بالعثور على نقطة التوازن الدقيق التي يصعب تحديدها في الحقيقة.
ثمة عوامل «خارجية» أتصور أنها تفرض في نهاية المطاف الاختلال في التوازن، أهمها على الإطلاق سياسة الجهة الإعلامية التي يظهر فيها التحليل العسكري أو التحليل السياسي، وسياسة الدولة التي تعمل فيها المؤسسة أو تبث منها. وربما يجعل ذلك من ظهور المعلقين المتوازنين شبه مستحيل في الإعلام، بكل وسائله وأشكاله. وثمة أمثلة معروفة على منافذ إعلامية لا تستشير سوى المحللين والمعلقين الذين يبثون روح التيئيس من فكرة المقاومة وإظهارها غير عقلانية والتوجيه إلى مناخات استسلامية وتبريرها. وبالتأكيد سيتم التركيز فيها على الخسائر وقتامة الآفاق، وعلى ما يفرق ولا يجمع، وبعضها يفسح مجالًا لمعلقي العدو وحلفائه لنشر دعايتهم، باسم التوازن. ولا يصعب العثور على دوافع هذه المنافذ وغاياتها.
وهناك منافذ تستشير محللين ومعلقين ربما يفرطون في عرض المكاسب ويقللون الخسائر، لكن كل ذلك يندرج في الإطار العام لسياسة المنفذ الإعلامي والجهة التي تملكها. ويغلب أن يكون هذا النوع من المعالجة أكثر جاذبية لأن الناس في أوقات الأزمات لا يرغبون في ارتياد الأماكن التي تثبط روحهم المعنوية وتسلبهم أي بوارق أمل. والمشكلة في هذه السياسة الإعلامية هي أنها قد ترفع الآمال إلى حد مفرط، بحيث تكون خيبة الأمل مفرطة أيضًا عندما تصطدم بالواقع.
باختصار، سوف تحدد الجهة الإعلامية التي يظهر، أو يكتب، فيها المحلل أو المعلق الاتجاه الذي ينبغي أن يسلكه إذا أراد أن يظهر هناك. وحتى لو كان ينطوي على وجهة نظر متوازنة، فإنه سيتبع مقولة «ليس كل ما يُعرف يُقال»، من أجل ضمان العمل. وقد يكون مقتنعًا، عن وعي، بعامل الروح المعنوية ويغلّبها على الموضوعية التي قد يرى محبطة حيث لا يلزم الإحباط.
بشكل عام، ثمة فرز واضح على مستوى العالم بين منافد الإعلام الرجعية والتقدمية، والمرتبطة بالمؤسسة الرسمية وتلك الأميل إلى الشعبية. والمحطات والصحف في «العالم الديمقراطي» تستضيف غالبًا المعلقين الذين يميلون إلى انتماءاتها وغاياتها السياسية والأيديولوجية. ومن «سي. إن. إن»، و»نيويورك تايمز» إلى «الصنداي تايمز» و»لوموند ديبلوماتيك» انحيازات لا يمكن تفويتها.
لذلك، من الموضوعية أيضًا في التقييم رؤية الظروف التي يعمل فيها المحللون والمعلقون، والاعتراف بأن الموضوعية قد تعني ألا تعمل وألا يستشيرك أحد – إلا مَن رحم ربي. وبخلاف ذلك، كان العالم ليكون جنة حرية الرأي الخيالية.