"الصوفية" في مرمى نيران رواد "السوشيل ميديا"... بسبب صلاح التيجاني!

"الدين- الجنس -السياسة"، تابوهات محظورة تتردّد الشعوب العربية قبل الاقتراب منها، وإن حدث يكون بحذرٍ، خشية الوقوع تحت مقصلة المجتمع وهجومه الحادّ. لكنّ انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، واتساع مساحة الحرّية في التعبير عن النفس، ولّدا مزيداً من الشجاعة في مناقشة تلك القضايا.

لذا فاضت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بالحديث عن اتهام إحدى الفتيات للشيخ صلاح التيجاني (ألقت الأجهزة الأمنية القبض عليه)، وهو شيخ شهير في إحدى الطرق الصوفية في مصر (تبرأت منه مشيخة الطرق الصوفية في بيان رسمي)، فشغلت هذه القضية حيزاً كبيراً من الاهتمام، وصفه بعضهم بالمبالغ، ما يجعلنا نضع الواقعة في إطارها العام، ونتساءل كيف تحولت إلى "ترند" وما سرّ هذا الاهتمام؟

أسباب الضجة

تطرح هذه الواقعة إشكاليات عدة أولها الاهتمام الكبير الذي لاقته، ولعلّ سبب الضجة هو توسع الدور النقدي لمواقع التواصل الاجتماعي، ولكونها تضمّ تابوهات عدة وبينها الدين، والجنس (التحرش)، ثم الشهرة، لأن المتهم معروف، وبعض أتباعه من مشاهير الفن والأدب والثقافة، إذ ساهم بعض التربص أو الاختلاف مع بعض هؤلاء المشاهير في استغلال هذا "الترند" للهجوم عليهم، مبررين ذلك الهجوم أن ثمة مسؤولية مجتمعية تقع على كاهلهم، خصوصاً أنّهم مؤثرون بين قطاعات كبيرة من الناس، وغير مقبول أن ينساقوا خلف الغيبيات والأفكار التي يطرحها مثل هذا الشيخ، وبعضهم الآخر يرى أنه حتى إن لم تثبت إدانته بالتحرش لكنه مدان بالظلامية ونشر الجهل والخرافة.

كما أن تداول هذه القضية يعود لزيادة الوعي. فهذه الفتاة كانت من مريدي الشيخ ضمن أسرتها، لكنها خرجت للدراسة في أوروبا، والتقت طبيبة نفسية نصحتها بالكتابة بما مرّت به وما كان يمثل ضغطاً عليها، فلم يعد هناك أي حرج في انتقاد مدّعي التدين، لكن اللافت أن والدتها خرجت لتكذيبها.

ظواهر قديمة

قد نعتقد أن هذه الواقعة بمثابة ظاهرة جديدة في الأوساط الصوفية، لكنها ظاهرة قديمة توارت بمرور السنوات تحت وقع الكثير من الأحداث المتلاحقة، وتواري كثير من الباحثين الجادين. فـ"السوشيل ميديا" ليس ساحة لطرح البحث الجاد إلّا إذا طرحه صاحبه بطريقة موجزة وطريفة، مثلما فعل الصحافي والخبير في الظواهر الدينية وائل لطفي، الذي كتب على صفحته على "فيسبوك": "أنا بلا فخر أول من كتب عن "الصوفية الجدد"، في "روزاليوسف" سنة 2006، وخضت مغامرة كي أدخل للشيخ صالح أبو خليل، والحقيقة وجدت نصف فناني وكتّاب مصر، ولفيف من السادة المسؤولين". وفقًا لما سرده لطفي.

ثمة سوابق لحالات مشابهة بين الطرق الصوفية سواء جنسية أو عقائدية، مثل رصد تجاوزات تخص العقيدة، وكانت تحال للأزهر ثم تتحول إلى قضية جنائية، من أشهرها قضية الطبيب صلاح شعيشع في ثمانينات القرن الماضي في الاسكندرية، الذي أدّعى النبوة وأسس طريقة صوفية، وتمّ رصد تجاوزات والإبلاغ عنه بسبب حفلات صاخبة كان يقيمها هو وأتباعه. وهناك حالات يتمّ الإبلاغ عنها و أخرى يخضع اكتشافها للصدفة وفقاً لمدى فجاجة الممارسات.

الصوفية بحرٌ عميق

تطورت الصوفية المصرية بأشكال مختلفة منذ أن ظهرت في القرنين الثالث والرابع من الهجرة. وهي حركات دينية تدعو للزهد والمحبة والعبادة، وهي أكثر انتشارًا وقبولًا في المجتمع المصري، وأقرب إلى نفوسهم لأنها تتماشى مع طبيعتهم التي تميل للهدوء والاستقرار والسكينة ونبذ التشدّد، والانتماء إليها لا يقتصر على الفئات الفقيرة، بل ينضمّ إليها كثير من الطبقات العليا والفئات ذات الثروة والمكانة الاجتماعية.

أفكارٌ صوفية

يرى لطفي أن ثمة إشكالية مهمّة تطرحها هذه القضية بقوله لـ"النهار العربي": "الطرق الصوفية في مصر من المؤسسات الاجتماعية التي لم يتمّ تطويرها منذ ظهورها في العصر المملوكي، فظلت على حالها من حيث شكل العلاقات، وما زالت تعيش على الإنتاج الفكري لمؤسسيها".

وتابع لطفي: "إذا تمّ تحديث هذه الطرق وتدريب الشيوخ المسؤولين عنها، والاهتمام بتعليمهم الديني والدنيوي، يمكن أن يتركوا أثرهم الكبير في المجتمع، لينقلوا ما تعلموه إلى أتباعهم عبر أفكار بعيدة من الخرافات يمكن أن تتحول إلى طاقة معرفية وإنتاجية في المجتمع، فأتباع الطرق الصوفية عددهم كبير يبلغ نحو أكثر من 15 مليون فرد، ولهم تأثيرهم، وكل طريقة هي اجتهاد فكري في فهم الدين، والاجتهاد مسموح به طالما في إطار العقل والعدل والشريعة والقيم الإنسانية. وإذا مُنحت لهم الفرصة للإبداع بشكل أكبر فستجتذب عقولاً أهم بعيداً من الخرافات".

وأضاف: "تكتفي الدولة بمتابعة أحوالها إدارياً من خلال المجلس الأعلى للصوفية، وتضمن انضباطها سياسياً. ولكن لم يحدث أن تتبنّى وزارة الأوقاف أو مؤسسات الدولة المختلفة أو حتى الأزهر الشريف مثلاً، رغم الطبيعة الصوفية لإمامه الأكبر الشيخ أحمد الطيب (وهو من رموز الصوفية الحقيقية)، أي مشروع لتطوير الصوفية في مصر".

الافتتان بالشيوخ

أما الإشكالية الثالثة، فهي انّ الصوفية تحتوي على إمكانية "المخاتلة"، وهي شيء بين المخادعة والتخبّط دون قصد، فكثير من أتباع الطريقة يلجأون إلى شيخهم بحثاً عن السكينة، خصوصاً إذا كان يواجه مشكلات حياتية. فالشيخ في الصوفية هو أداة لمعرفة إلهية، يأخذ بيد تابعيه ليتأمّل ويعرف قدرة أو محبة الله أو الطريق للزهد، ومجاهدة النفس فيحدث افتتان بالشيخ ذاته بدلاً من حدوث افتتان بالمعرفة. ويرى لطفي أن هذا ما حدث مع الشيخ التيجاني بقوله: "يبدو رجلاً معجب بنفسه ويعتمد على العلاقة الشخصية بالمريدين وليس العلاقة الروحية، فيحدث افتتان به، فإذا كان الشيخ شريراً فطبيعة العلاقة مع المريد ستسمح له أن يستغله جنسياً أو مادياً وغيرهما، فأساس صلاح الصوفية هو صلاح الشيخ".

الاستغلال المذهبي والعقائدي

استغلّ البعض (خصوصاً في الأوساط السلفية) هذه الواقعة، للهجوم على الصوفية ورموزها وتشويهها لصالح النقيض لها من التشدّد السلفي، وخرجت بعض الأصوات على مواقع التواصل ترى أن هذه الحملة تحولت إلى استهداف للصوفية رغم ما تمثله من نشر للتسامح والمحبة ومواجهتها للإسلام السياسي المتطرّف، خصوصا أنّ ثمة عداءً فقهياً تاريخياً بين الصوفية والسلفية، لكنها ليست دعوة لغض الطرف عن الاتهامات الموجّهة للتيجاني.

ويبدي "لطفي" توافقه مع هذا الرأي قائلاً لـ"النهار العربي: "هناك فارق بين تقييم الصوفية بشكل موضوعي، رغبة في إصلاحها وبين هذا الهجوم، إذ ظهر أشخاص مثل عبدالله رشدي وهو "سلفي" يطرح آراء شديدة التخلّف، مثل إباحة الرق ومضاجعة الجواري، مستغلاً هذه الواقعة الفردية للإساءة إلى الصوفية كلها، فهو اصطياد في الماء العكر، فالنظرة السلفية ترى العلاقة بين العبد وربه هي علاقة قهر وإجبار وتلجأ للتخويف. بينما الصوفية عكسها تماماً، فهي تدعو للعلاقة مع الله بالمحبة، لكن قد يحدث مبالغة مثل الحالات التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي، واستخدام عبارات مبتذلة وإبداء مشاعر مبالغ فيها بين الشيخ ومريديه.

الاستغلال السياسي

سياسياً، رأى متابعون أنه تمّ تزكية نيران هذا "الترند"، وتصعيده بالتزامن مع رفع أسعار أنبوبة الغاز للمنازل والمتاجر 50 جنيهاً (أكثر من دولار أميركي)، وهي زيادة ضخمة بالنسبة الى دخول المصريين، ليكون بمثابة ستارة دخان للإلهاء عن مشاكل حقيقية، وهو ما يُعتبر انسلاخاً عن قضايا وهموم الرأي العام ومعاناته مع غلاء الأسعار.

ذهبت آراء أن المشكلة تكمن في السياق العام الذي رأى في الواقعة ما يهمّه ويشغله بقدر أكبر بكثير من واقعة كارثية مثل تفجير "البيجر" والأجهزة الإلكترونية، وسقوط آلاف اللبنانيين بين قتلى وجرحى على مدار الأيام الماضية.

الجماعات الدينية المغلقة

وفتحت هذه القضية الباب للتساؤل عن الجماعات الدينية المغلقة ودراسة ظواهرها، ربما يكون أسباب الانضمام إليها هي إحساس الإنسان بالعجز إزاء العالم والواقع، فيلجأون للهروب إلى الغيبيات، وهذا لا يقتصر على دول الشرق بل كل دول العالم، والفارق أنها لا تتحول إلى مشكلة، إلّا إذا كان هناك عنف، مثلما حدث في بعض الطوائف، لعلّ أشهرها أكبر حادثة انتحار جماعي في التاريخ راح ضحيته نحو 913 شخصاً، العام 1978، قامت به طائفة بروتستانتية تزّعمها جيم جونز الذي جمع أتباعه في قرية صغيّره في غيانا في أميركا الجنوبية وأقنعهم بشرب مادة السيانيد السامة الممزوجة بعصير العنب، مدّعياً أن ذلك انتحار ثوري.

وعلّق الخبير في الاجتماع السياسي عمار علي حسن على الضجة الجارية قائلاً: "أفرّق دوما بين "التصوف" و"الطرقية" أي الطرق الصوفية، وأقول دائماً إن من بين أهل الطرق "الأولياء" و"الأصفياء" و"الأتقياء" وهناك "الأدعياء" و"الأشقياء"، وهم في هذا شأنهم شأن أي تجمّع بشري باسم الدين، بينه المخلص الحريص على الصواب، وبينه من هو غير ذلك، الباحث عن منفعة أو حماية أو ستار أو طبابة نفسية أحياناً. وهذا لا يخصّ الإسلام كدين وحده، إنما مسألة موجودة في كل الأديان والمعتقدات، على مرّ الأزمنة. وقد يطابق التدين الدين أو يقترب منه، وقد يبتعد ليسقط في تجارة أو بحث عن سلطة أو تغطية اشتهاء أو يتحول إلى أساطير وخرافات.