(الأنا) .. ما بين النرجسية والطموح

في مدينتا الفاضلة حكايات وروايات لا تنتهي.. بين ما يُعقل وما لا يعقل في واقعٍ فقد فيه الكثير من المنطق مَنطقه وأصبح اللا منطق يسود المناطقَ أقوالاً وأفعالاً في عالمٍ كلٌّ يرى فيه أنه هو الأَصح.. الأَحق وصاحب الأهمية القصوى في كل موقع.. حدث أو طريق ماضٍ.. حاضرٍ.. أو مستقبل. فتعلو "الأنا ومن بعدي الطوفان".. وتتعاظم النرجسية العمياء رويداً على مر الزمان مُذْهِبَةً العقل لآفاق يتجلى فيها جنون العظمة مع كل أشكال الخيلاء والكِبر..


يغلب لدينا الاعتقاد بأن البشرية قد تقدمت بتكون الحضارات والتفنن في الاكتشافات.. الاختراعات وكافة ما وصلت له من انجازات فها هم الحفاة العراة تطاولوا في البنيان.. تفننوا باستحضار الملذات وحكم الذهب الأسود قبل الأصفر معايير الحياة؛ تسلق الغرب الفضاء ووصل حدود السماء ليقفز "فيلكس" كاسراً حاجز الصوت ليثبت المخلوق الطيني تفوقه الخارق حتى على قوانين الفيزياء وأصبح العالم المترامي الأطراف في راحة اليد متاحاً لكن برغم كل هذا التباهي اللامتناهي بالمجد الواهي.. وبرغم كل هذا التطور العلمي.. التكنولوجي.. والحضاري نقف بدهشة عند العودة للذات البشرية الضعيفة من مختلف الأعراق.. حيث الغيرة والحسد.. على عطايا الرحمن من مختلف الأرزاق.. تتجلى واضحة مُشعلةً فتيل الخلافات.. لتتدفق من ورائها شتى أنواع الحروب والمهاترات الافتراضية.. النفسية والواقعية فتسود الفرقة والانشقاقات وما يتمخض عن ذلك من تبعات تأثر في مختلف الاتجاهات وعلى كافة الأصعدة.. كل ذلك نتيجة لانعدام القناعة الحقيقية بما قُسم وقُدر من رب العباد فدائماً ما يمتلك الآخرون هو المُشتهى وغاية المَطمع الذي من أجله تُبرر الوسائل الممزوجة بالإثم والعدوان وقد لا يُتَوانى فيها عن الإفك والبهتان.. إن كان ذلك سيحقق المبتغى باقتناص النصر غير المستحق إلا من وجهة النظر الأنانية البحتة التي ترى ذاتها بفوقية مفرطة عن باقي البشر؛ حيث تؤمن هذه الذات المرضية بأحقيتها بكل ما هو مميز وأنه يجب أن يمنح لها على طبق من ذهب دون أي جهد يذكر. هذا الشعور بالاستحقاق نابع من المبالغة اللاعقلانية في تقدير الذات والانشغال بأوهام القوة.. الانجاز.. التألق.. والابداع لدرجة كبيرة تؤثر حتى على مستوى العلاقات الشخصية حيث لا تقبل هذه الذات المفتونة بنفسها إلا بالمثالية المفرطة في أدق التفاصيل قبل شموليتها حسب معاييرها الوهمية غير المنطقية التي لا ترى أي ايجابية لا تتوافق مع أهوائها الشخصية مما يجعل من حول هذه الذات النرجسية باختلاف صفاتهم الاعتبارية ومسمياتهم يضيقون ذرعاً بهذه التصرفات السوداوية فيرحلون بعيداً عنها وعن كل ما يمثلها قدر الإمكان.


الطموح حق مشروع لا خلاف عليه لكل انسان يمتلك الرغبة في أن يكون.. كما يريد أن يكون ضمن ما يتماشى مع أنظمة الشرع والقانون داخل المنظومة الكلية التي يحيا فيها الشخص بكافة أطرها وهيكلها العام. هذا الطموح يتم ترجمته بتخطيط متأنٍ متعدد المراحل الزمنية والتطبيقية برؤية منطقية مبنية على معطيات صلبة قابلة للاستثمار المستدام نابعة من مكامن الذات السوية وقدرات الشخص الحقيقية الخاضعة للصقل والتطوير المستمر مع ما يفرضه واقع الحياة التي يعيشها بكافة نواحيها ومتطلباتها.. فالإنسان جزء لا يتجزأ من مجتمعه سواء كان بطبعه تفاعلياً أو انعزالياً فعليه أن يتعامل مع هذا المجتمع المحيط بايجابية متوازنة تمكنه من كسب القبول المجتمعي والتعاطف الانساني الصادق المبني على الاحترام الذاتي والتقدير سعيًا لتأسيس جذور متأصلة ممتدة تكون داعمة لتشكيل بيئة حاضنة قوية للانطلاق منها نحو تحقيق الذات.. اثبات الوجود وتفعيل مبادئ سياسة كسب التأييد للمضي قدماً في مسيرهِ نحو المستقبل.. مع الادراك التام بأن هناك الكثير من المعيقات المتوقعة والطارئة التي قد تواجه هذا المسير مما يحتاج التحلي بمرونة عالية في التعامل مع أي مستجدات وتغير في المسارات أو حتى الأهداف في بعض الأحيان. بالإضافة إلى أن اعتناق الدبلوماسية العالية مع اكتساب مهارات وفنون تمكين وتنمية الذات البشرية ومتابعة تحديثاتها باستمرار هو من أهم نقاط القوى للاستجابة الواعية والصحيحة لكل المتغيرات والداعمة لتحقيق الطموح الذي يبدأ كحلم متمثل بصورة مترسخة في مخيلة جامحة لمستقبل رائد متألق فيتحول من الخيال لواقع فعلي مبدع بمشيئة الله.


مهما تقدمت وتغيرت من حولنا الحياة ومظاهرها باختلاف مجالاتها ومستوياتها يبقى المحور الأول لمواكبة كل تطور هو العودة إلى الذات والسيطرة على جموحها.. تغذية فضائلها.. نبذ شوائبها.. ومنع جنوحها إلى المهلكات.. مع القناعة التامة بأن الأمجاد تُبنى بالجد والسعي الذاتي فقط وبخطوات ذاتية حثيثة قد تتأرجح بين الثبات والتعثر لتحقق النجاح تارةً وتبوء بالفشل تارةً أخرى مكونة خبرات قيمة مؤهلة لقيادة مستقبل مشرق.. مثمر حصيلة عمل دؤوب مشرف بكل فخر.. وفي النهاية تبقى هي الأقدار كما كُتبت.. رفعت أقلامها والصحف جفت.. فالحمد لله على ما شاء وقدر وفعل دائماً وأبداً.. والله من وراء القصد.