دلالات العدوان الإسرائيلي المباغت على لبنان


هل كان هجوم أجهزة الاتصالات في لبنان قراراً بضغط من يوآف غالانت لإرباك نتنياهو ووضعه أمام قرارات صعبة لتطوير الهجوم على حزب الله أو احتوائه؟ أم قراراً من نتنياهو لتقديم نصر للجمهور يسمح له بإقالة غالانت؟ خصوصا أن نتنياهو يتوقع جازماً من أمريكا ردع حزب الله ومنعه من رد واسع، وهذا يعني أن تطوير العملية المباغتة إلى هجوم بري لم يكن من أولويات نتنياهو، وإنما إقالة يوآف غالانت وتسجيل مزيد من النقاط لائتلافه الحاكم على حساب لبنان.


من ناحية أخرى؛ هل كان الصراع بينهما (نتنياهو وغالانت) مناورة وغطاء لإطلاق هجوم مباغت بالتوافق، علما أن وزير الحرب غالانت أمضى الـ24 ساعة التي سبقت الهجوم في اجتماعات أمنية لتقييم الوضع في الجبهة الشمالية، في حين كان نتنياهو - بحسب القناة 13 - يرسل الوفود إلى زوجته سارة لإقناعها بالاتفاق مع جدعون ساعر وحزبه "أمل جديد" للانضمام إلى الائتلاف الحاكم وتولي منصب وزير الحرب بديلا للوزير الحالي غالانت، وهي تسريبات أثارت جدلا كبيرا حول واقعيتها.


يبدو المشهد السياسي الداخلي الإسرائيلي كمناورة كبيرة ومتقنة، ولكن بعد ساعات من العدوان والهجوم الدموي بأجهزة الاتصال (البيجر) على لبنان؛ عادت الصحافة العبرية وعلى رأسها القناة 13 للحديث عن نية نتنياهو إقالة غالانت نهاية الاسبوع الحالي في حال لم تندلع حرب واسعة مع حزب الله.

يصعب الفصل بين ما هو داخلي وخارجي، بين ما هو خاص بنتنياهو وزوجته وائتلافه الحاكم وبين ما هو خاص بالكيان وأولوياته الاستراتيجية في الحرب، فبحسب "يديعوت أحرونوت" استبعد غالانت بالمطلق خلال مناقشة مغلقة جرت ظهر أمس الاثنين في كيريا بـ"تل أبيب" مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إمكانية التسوية في لبنان، قائلا: "لقد ظللت أتحدث عن التصعيد أو التسوية، لكن ليس هناك إمكانية للتوصل إلى تسوية.. هناك خيار واحد فقط.. استخدام القوة الكاملة، واستخدام كل قوتنا العسكرية بهدف إعادة سكان الشمال إلى ديارهم".

غالانت وافق قبل ساعات من هجوم أجهزة الاتصال على نقل ثقل المعركة إلى شمال فلسطين مع لبنان، ووافق على إضافة أهداف جديدة إلى الحرب بإعادة النازحين من المستوطنين إلى شمال فلسطين، دون أن يشفع ذلك له عن نتنياهو وزوجته سارة، ما يعني أن جوهر الخلاف لا يتعلق بالجبهة اللبنانية، وإنما بتماسك الائتلاف والعلاقة بين مكوناته.

فالمشهد السياسي داخل الكيان الإسرائيلي مربك، كون نتنياهو يبحث عن شركاء جدد لمساعدته في تمرير موازنة الدولة للعام 2025 لتصل به إلى العام 2026 مقتربا من موعد انتخابات الكنيست في نوفمبر من ذلك العام، وذلك عبر إرضاء الاحزاب الدينية شاس ويهودية هتوراة، وفي الآن ذاته تجميد القرارات المتعلقة بتجنيد اليهود الحريديم المتدينين، وهي قرارات يعارضها غالانت على نحو يهدد بتفكك الائتلاف الحاكم من الداخل ويقبلها ساعر.

أخيراً؛ لا يمكن فصل الصراع السياسي داخل الكيان عن المشهد السياسي الاقليمي والدولي؛ إذ بات واضحا أن أحد أهم المعيقات لوقف الحرب وإبرام صفقة لتبادل الأسرى اثنان:

الأول نتنياهو، والأسباب باتت معروفة تتعلق بمستقبله السياسي وأجندته اليمينية المتطرفة التي يرغب بتفعيلها في ظل اعتماد مطلق على أمريكا لضبط إيقاع المواجهة وردع إيران وحزب الله عن شن عمليات واسعة.

والثاني أمريكا، والسبب عدم توفر أفق واضح إقليميا وفلسطينيا لإدارة مرحلة ما بعد الحرب سياسيا وعسكريا، في حين أن لديها متهماً لإطالة الحرب تلقي عليه اللوم، وهو نتنياهو، إلى حين الوصول إلى أفق سياسي يحافظ على نفوذها بمنع تشكل فراغ يملؤه خصومها.

المحصلة النهائية لكل ذلك يفيد أن المنطقة وصلت إلى طريق مسدود عسكريا وسياسيا، وأن حرب الاستنزاف الطويلة باتت واقعا يجب التعايش معه؛ فالاسرى أغلق ملفهم، و"حماس" لن يتم تدميرها، والنازحون لن يعودوا الى الشمال، وحزب الله والحوثيون لن يتوقفوا عن استهداف الكيان، بل سيصعدون، وأمريكا في المقابل لن تسمح باندلاع حرب إقليمية واسعة، وستبقى حاضرة لاحتواء التصعيد وخفضه بين الحين والآخر بالقوة أو بالدبلوماسية، ما يعني أن المنطقة انتقلت الى حرب استنزاف طويلة تكثر فيها الرهانات على تحولات عميقة أو تراكمية في موازين القوة، وتتعايش فيها المنطقة سياسيا واقتصاديا وأمنيا مع حافة الحرب الاقليمية واحتمالاتها المستقبلية.