مساء السبت الذي يذهب فيه المسعدين للترفيه عن أنفسهم من عناء أسبوع ثقيل، تحركت متوجها إلى الدوار الرابع في عمّان للمشاركة في إعتصام سلمي ينادي للإفراج عن شباب معتقلين من أبناء بلدي منذ أسابيع بتهمة إطالة اللسان، وهي تلك التهمة المضحكة إن تخيلتها كفعل جسدي وهو ما يعرف بالملاوقة التي كنا نمارسها ونحن صغار، وكانت فعلا مستفزة للخصم بشكل غير طبيعي، وغالبا ما كانت ردة فعل المفعول به، الملاوقة بالمثل أو الهجوم على الفاعل لإجبارة على ضب لسانه.
وقد جلسنا نحن مجموعة من غير الشباب، حتى لا أقول الختيارية، على حافة مبلطة أسفلها قنوات مليئة بالمياه الآسنة لركودها وكنت أفكر بالأخطاء التصميمية التي إرتكبها زميل لي في المهنة حيث صمم النوافير المائية على الدوار الرابع وفشلت فيما تعالت هتافات الشباب المطالبين بالإصلاح موجهين رسائل إلى القائمين على الحكم في الأردن وكانت ذات سقف عالي لم أسمعها في المرات السابقة ولن أوافق عليها فيما لو استشرت بأمرها. وبدا لي بأن الجانبين الأمني والمنظمين للإعتصام يفهمون على بعضهم ولكل من الفريقين رسائل مسبقة يود أن يوصلها للطرف الآخر، وكانت الشواهد على ذلك كثيرة أهمها عمل مصفحات مكافحة الشغب لدورتين التفافيتين حول الدوار مطلقين صفارات الإنذار قابلها رفع لسقف الشعارات من قبل المنظمين. وللأمانة في نقل الحدث فقد سمعت من أحد الشباب بأن مندوب الأمن قد وجهه تحذيرا بمكبرات الصوت بضرورة إخلاء المكان لمخالفة الإعتصام للقانون، وما هي الإ دقائق حتى اندفعت بإتجاهنا مجموعات مدججة بالعصي والسواتر بطريقة مبرمجة لدب الرعب في نفوس الحشد الموجود داخل حلقة الدوار والتي لم يغادرها بإتجاه الشوارع المحيطة الإ هربا من العصي والشلاليط الأمنية. ويراودني التردد والخجل لأبوح لكم باني قد أطلقت العنان لأرجلي المتعبتين لأغادر دوار المصارعة هذا، وربما كان من حسن حظي النجاة بدون تلقي ضربة أو شلوط، وقد شاهدت كغيري مشاهد عنف لن تزول من ذاكرتي ما حييت.
وعلى الرغم من أني قد وجدت نفسي في وضع لا أحسد عليه إلا أني غير نادم على مشاركتي هذه والتي كشفت لي جوانب إضافية لم أكن اعرفها عن بلدي تلخصت في البيان الصادر عن الأمن العام حول موقعة الرابع.
والذي لا يعرفه من صاغ البيان هو أن المشارك في هكذا حدث يكون متنبها ومسجلا لكل كبيرة وصغيرة لأنه جزء من الحدث، وما أن وصلت بسلام الشجعان -سيء الصيت- إلى المنزل وتحملت سماع نشرة أخبار الثامنة على التلفزيون الأردني إلى حين قراءة البيان الصادر عن الأمن العام الذي أصابني بالذهول لدرجة الإختلاف الكبير في وصف ما حدث، حيث ركز البيان على أن الإعتصام غير سلمي مما يعني أن الإعتصام حربي، وهذا غير صحيح، وذكر المذيع المتجهم بأننا نحن المعتصمين قد أغلقنا الشوارع المحيطة بالدوار، بينما أفاد هو نفسة بأن عددنا لم يتجاوز المئة شخص، وهذا الإداء بعيد كل البعد عن الحقيقة، فالسير متدفق كالعادة، وأختتم البيان بالقول بأن المعتصميين قد تلفظوا بكلمات مخلة بآداب العامة وقاموا بالسب على رجال الأمن العام وهذا ما لم أسمعه وما يخالف كل حلقات المنطق. والغريب أن المذيع المتجهم قد بدى مصدقا لما يقرأ ويظن أن أحدا من المشاهدين سيصدق هكذا بيان أقل ما يمكن أن يوصف به بأنه غير صادق. وكان من الأجدر على المؤلف أن يصف مخالفة القانون التي قام بها المعتصمين وهي التجمهر غير المشروع وإطالة السان، لهذا قامت قوات الأمن بفض الإعتصام بالقوة وكان الله بالسر عليم.
نعم إيها القراء الأعزاء، هذا البيان هو نموذج لما يحدث في الأردن حيث أن الفاسدين طلقاء والبيانات تقول بأن الدولة تحاربهم وهذا ما يجعل المواطن غير مقتنع بسيناريو الحكومة للإصلاح، ومن المفارقة العجيبة بأن يقوم رئيس الوزراء بزيارة لبني معروف المعتصمين قبلنا على الدوار ويعبر لهم عن إحترامه الشديد للسجين بتهمة الفساد -أبو حمدان- بينما لم يتنازل أن يسمعنا صوته الشجي على الدوار مع ان عدد معتقلينا أكثر وتهمهم أقل ضرارا بالإقتصاد الوطني.
ولن يهدأ الشارع الإ إذا كانت هناك إجراءات حقيقية -بدون لف أو دوران- تشمل في الجانب الإقتصادي منها حلا عادلا لإعادة أسهم الفوسفات للحكومة وإلغاء بيع ميناء العقبة وإسترجاع أراضي الخزينة المسجلة بأسماء المتنفذين وفي الجانب السياسي إجراء إنتخابات حرة ونزيهه (فعلا لا قولا) تفتح الباب لقدوم مجلس نيابي يمثل الشعب ويعمل على قوننة الإصلاح لضمان فصل السلطات وبهذا فقط يمكن أن يهدأ الشارع ولو إلى حين وسأكون أول العائدين إلى الدوار لقرع الجرس عندما أحس بأن الأردن يمكن أن يكون أفضل بمشاركتي في قرع الجرس.