الاستعمار الاستيطاني، مرة أخرى..! (2-2)

يفكر الفلسطيني في لحظات اليأس بأنه كان من نصيب شعبه أن يواجه أسوأ تجربة يمكن أن تواجهها أمة، شعبا وأفرادا، على الإطلاق وبما لا يقاس: أن تكون هدفا لمشروع استعمار استيطاني. هذا النوع من الاستعمار لا يقبل القسمة على اثنين، لأنه يفرض، بالتعريف، صراعا وجوديا، محصلته: أنا أو أنت. إنه معركة يسعى فيها كيان مختلق إلى دخول التاريخ، بالضرورة على إساس إخراج كيان آخر والحلول محله. وهو لذلك صراع لا يقبل التسويات.

وفي التاريخ أمثلة على قسوة التجربة، لمن يقرأ: في سوابق الحالات الاستعمارية الاستيطانية، تم إلغاء السكان الأصليين وإخراجهم تماما من التاريخ –وتقريبًا من الوجود الفيزيائي- في أميركا الشمالية وأستراليا، ونيوزيلندا. وتم تجريد الباقين منهم من حقوقهم وإنهاء وجودهم الثقافي والاجتماعي المحسوس، باستخدام العنف الجماعي والتطهير العرقي والتهميش الذي لا يرحم. وقد تحول من تبقى من نسل السكان الأصليين إلى أقليات معزولة، وتحولت أزياؤهم وعاداتهم وسمات ثقافتهم ورموز هويتهم إلى عروض تراثية جانبية في المعارض والمتاحف، كأثر من حقبة دارسة ليست أكثر من فصل موجز من تاريخ أمة المستعمرين المنتصرين.
 

هذا هو ما هم الفلسطينيون بصدده. ومع ذلك، يقول الرئيس الفلسطيني في إحدى المقابلات: "أنا مش مستعد أدمر بلدي عشان بالأخير أقول والله أنا رفعت شعار المقاومة. أي مقاومة؟! أي مقاومة؟! إننا لا نريد أن ننجر وراء الشعارات، فقط من أجل أن نرضي خيالاتنا”. ويقول في نفس المقابلة: "العمل العسكري سيدمرني. بقدرش عليه. أنا لحالي بقدرش عليه. إذا العرب جاهزين يحاربوا، أنا رح أكون قدامهم”.
وماذا إذا كان العرب لا يريدون أن يحاربوا؟ ولماذا السؤال الاستنكاري عن المقاومة؟ لا أحد مجبر على القتال نيابة عن أحد، والبديل عن المقاومة في السياق الاستعماري الاستيطاني الإحلالي هو الفناء. والتاريخ يعلمنا أن الشعوب التي وقعت ضحية للاستعمار الاستيطاني ولم تقاوم -أو لم تستطع المقاومة- واجهت المصير القاسي المحتوم: تم إقصاؤها بالكامل، أو محو وجودها الحضاري بشكل شبه كامل. ولا يمكن التذرع بعدم تدمير البلد لتبرير الاستنكاف عن المقاومة، لأنه لن يكون هناك بلد، لا مدمر ولا سليم عندما يستسلم الشعب المستعمر لمشروع إحلالي. ثم، من قال إن عدم المقاومة يحمي مقدرات الشعب الأصلي المادية وغير المادية من التدمير؟
يقول الرئيس في نفس المقابلة أن المقاومة في غزة جلبت التدمير على القطاع. وما يزال حساب الأرباح والخسائر هناك موضوعا للأخذ والرد. ولكن، ماذا عن الضفة التي تحكمها السلطة ويفترض أنها تحميها؟ الأراضي تصادر والناس يُقتلون ويُسجنون والمساحة تتقلص والكرامة "تحت بسطار الجنود”، كما يقول الرئيس نفسه. 
وعن الهجمة الحالية على الضفة، غير المنقطعة عن سياق الضم المتصل، يقول تريتا بارسي، المؤسس المشارك ونائب الرئيس التنفيذي لـ”معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول”، أن الدافع الحقيقي لعمل الكيان هناك هو السيطرة الكاملة على المنطقة.‏ ويضيف: "هذا لا يتعلق بحماس.. يجب أن ينظر إلى هذا في سياق جهد مستمر وبعمر عقود لضم أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينية ببطء -ولكن بثبات. لم يكن هناك هجوم كبير شُن من الضفة الغربية، و”حماس” ليست هي القوة المهيمنة هناك. هذا يظهر أن الأمر لا يتعلق بحماس بقدر ما يتعلق بخطة الدولة الإسرائيلية طويلة الأجل للقضاء على فلسطين ومحوها من الخريطة”.‏
كان الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في أميركا الشمالية وأستراليا مدفوعا بالرغبة في البحث عن أراض جديدة للاستغلال الاقتصادي والزراعي، وخلفيات دينية جزئيا (مفهوم "العناية الإلهية” لدى المستوطنين البيوريتانيين في أميركا). لكن الاستعمار الصهيوني في فلسطين مدفوع بعقيدة أيديولوجية قومية ودينية في آن واحد، حيث يتم تبرير الاستيلاء على الأرض تحت شعار "إقامة وطن قومي لليهود”، والاستناد إلى النصوص الدينية لتأكيد شرعية الاستيطان. وقد جاء المستعمرون الصهاينة من كل أطراف الأرض وأحرقوا السفن، حيث المغادرة ليست خيارا. وترك أحد يقاسمهم الأرض أو ينازعهم عليها ليس خيارا. والسماح بقيام كيان اسمه فلسطين على أي جزء من "إسرائيل الكبرى” ليس خيارا. وفي أحسن الأحوال، إذا لم يستطيعوا تهجير الفلسطينيين، فسوف يدفعوهم إلى مساحات ضيقة منفصلة ومسيجة من نوع "محميات” الهنود الحمر في أميركا، لـ”الحيوانات البشرية”، كما يقولون.. حتى أن المحميات الطبيعية تُقام لحماية شاغليها من الانقراض. لكن هذه محميات تقصد إلى تسريع الانقراض –أو الهجرة. هذا هو نوع المحميات، التي تقيم فيها "السلطة الفلسطينية”، والتي يُقترح على الفلسطينيين تسجيلها باسمهم شكليا، ولن تُسجل.
لا نريد المقاومة، أو لا نستطيع المقاومة، يعني الخروج من التاريخ. وليس هذا خيار الشعب الفلسطيني الصامد المقاوم غير المعجب إطلاقًا باجتهاد القيادة المفروضة عليه. والصمود لا يعني الوقوف في زاوية وتلقي الضربات بلا رد فعل. والفلسطينيون يعرفون تعقيد المهمة. إنهم يحاربون مباشرة الولايات المتحدة وأوروبا الاستعمارية مجتمعة، وكمية هائلة من المتواطئين المتوقعين وغير المتوقعين. لكن البديل عن الصمود والمقاومة هو نوع الفشل المتراكم الذي يجلبه الخلط الغبي بين السلام والاستسلام. والنتيجة أن الشعب الفلسطيني لم يقترب أبدا من الحرية منذ إسقاط خيار المقاومة. وفي الحقيقة، هذه حالة استثنائية تاريخية تعامل فيها قيادة شعب مُستعمر المقاومين فيه كأعداء ينبغي مطاردتهم واجتثاثهم –وكأن القيادة تعني فرض القبول بالعبودية على الأحرار!
ينبغي دائما تذكير كل الذين يلومون المقاومة، والذين يجبنون عن المقاومة، والذي يعلنون بغرابة أنهم يستطيعون المقاومة، بأن ما يواجهه الفلسطينيون هو استعمار – استيطاني- إحلالي – أيديولوجي - عقائدي لا يقبل مشروعه التسوية ولا القسمة، ولا التنازل، بالتعريف. إنه استعمار استيطاني إحلالي توسعي يقوم وجوده، موضوعيا، على عدم إنهاء وجود النقيض. إنه استعمار استيطاني، استيطاني، استيطاني... ويجب تكرار هذه الحقيقة إلى ما لا نهاية عل وهم المراهنين على "الطرق السلمية” يتبدد. وأمام هذا النوع القاسي من القسمة التي فُرضت على الفلسطينين، أي بديل عن المقاومة والتشبث بالبقاء في التاريخ برغم الألم، بكل السبل –وبالسلاح أينما توفر- تتركه هذه الحقيقة للفلسطينيين؟!