رائحة الغيمات

الغيوم الخفيفة التي تزركش سماء أيلول ليست إلا إشارة مبطنة، بأن المطر بات قاب لهفتين أو أدنى من أرواحنا العطشى التي ألهبتها سياط القيظ. فقديما لم يكن أيلول بوابة للخريف بل للمطر، ولهذا ما زالوا يقولون، رغم تبدل الأجواء ورغم ظاهرة الاحتباس الحراري، أيلول أبو ذيل المبلول.
نحن لا نرمي تفاؤل بشهر موشى بالرطوبة والطراوة والنسمات المحبوكة بخيط من حرير البرد، التي تتسلل للتراب بعد قبلات الغيوم المكتنزة فجراً على وجه الأرض، ثم إننا ما زلنا نتلقف إشارات الخير أينما كانت ونترجمها كما تشتهي كرومنا وأشجار زيتوننا
فما أن ينقضى ثلث أيلول حتى نبدأ بالبحث عن الطيون ذلك النبات البري وهو يرعل بأوراقه الخضراء بعكس كل الاشياء، فإن كانت الأوراق يانعة وطازجة الخضرة وواسعة؛ فهذا يمنحنا جرعة سرور أن الموسم ستعمره الأمطار.
ثم من قال إن اللوز أجرأ الشجر؟ فلدينا من هو أجرأ منه. الغُصلان (بضم الغين وفتح الصاد)، وهو نبات بري من الفصيلة البصلية يكثر الجبال، فمع بواكير أيلول يبدأ الناس بمراقبة أديم الأرض؛ فإذا بزغت عُصي الغصلان الطرية التي تشق التراب وتعطي نواراً أبيض يشبه نوار اللوز، التي يسميها أجدادنا زنابيط الرّي، فهي إشارة أخرى بري غزير.
من جماليات الغُصلان، ليس أنه يباغت الصيف، ويعطي نواره، بل إنه ورغم رائحته غير طيبة، إلا أن النحل وببوصلته الراقية يبدأ بجمع رحيق أزهاره ليجعل منه عسلاً بمذاق لا يقاوم.
في طفولتنا، وعندما كانت تبزغ زنابيط الري بين القبور بنوارها البهي، كنا نعتقد أن بذوره الصغيرة السوداء، إذا ما زرعت بعناية وهيبة في الحواكير، فقد تنبت الأموات وتعيدهم إلينا من جديد، ولهذا كثيراً ما كنت أقطفها وأزرعها في حوش دارنا وأنتظر أوبة الغائبين.
والآن كلما مررت بالمقبرة ووجدت الغصلان طارحاً نواره أشهق دامعي وأقرأ السلام على أرواح ما زالت تسكن روحي كانت تعشق الغصلان والطيون وتفرح إذ تشم رائحة المطر في غيمات بعيدات.