أسعار البقدونس تتخطى جنون الطماطم في مصر
قفزت أسعار الخضروات خلال الأيام الماضية في مصر، متخطية الطماطم في جنونها، لتحتل حزمة البقدونس قمة موجة الغلاء التي أصابت المحاصيل الورقية والنباتات العطرية، التي لا غنى عنها في أطعمة الفقراء والأغنياء، حيث ارتفعت في أسواق الجملة، من جنيه إلى 2.5 جنيه في ظاهرة لم تحدث من قبل، واكبها خفض كمية الحزمة لتصبح أقل من أصابع اليد.
تحول غلاء البقدونس والكزبرة والخضر المستخدمة في إعداد السلطة والأطعمة اليومية، إلى ظاهرة في كل الأسواق، دفعت مريم إبراهيم إلى البحث عن بدائل في الأسواق الشعبية، التي تعرضها بسعر الجملة نفسه، بعد أن أدركت زيادتها في مناطق أخرى ما بين 5 إلى 10 جنيهات.
تدرك مريم أن الطعام البسيط الذي تعده لأبنائها لن يكون ذا طعم بدون "خضرة". تحاول أن تحصل من بائعة على الرصيف على تخفيض بقيمة الحزمة، لحاجتها إلى كمية كبيرة من البقدونس، حيث طلب منها الطبيب، غلي كمية منه لاستخدامه علاجاً لبعض الأمراض.
تذكر السيدة المصرية لـ"العربي الجديد" أنها تحتاج إلى شراء 20 حزمة يومياً، تتولى غليها وتصفيتها لابنتها التي تعاني مرضاً عضالاً في الدم، يؤثر على الكلى والقلب، وصفه أحد الأطباء بديلاً لدواء لم يعد موجوداً في الصيدليات، وإذا حضر فلم تعد قادرة على شرائه، بعد ارتفاع هائل في سعره.
تشير إلى تحول البقدونس من سلعة متوافرة في الأسواق إلى عملة نادرة أغلى من الذهب، إذا ما قورنت بغيرها من السلع اليومية التي لا غنى عنها في إعداد الطعام، والتي لا يدرك الناس حجم الزيادة الهائلة فيها، إلا عندما يحتاجون إلى كميات يومية مثلها للعلاج أو إعداد وجبات كبيرة، في المناسبات أو المطاعم والمحلات التجارية.
تحولت أسعار البقدونس إلى قاطرة تجرجر أسعار مثيلاتها من الخضروات، كالشبت والكزبرة والنعناع والريحان والروز ماري والزعتر. ويؤكد نقيب الفلاحين حسين أبو صدام لـ"العربي الجديد" أن أسعار البقدونس نالها ما أصاب غيرها من ارتفاع الأسعار، وفقاً لقانون العرض والطلب، مشيراً إلى أن ارتفاع تكلفة الزراعة وقلة المساحات الزراعية دفعت المزارعين إلى العزوف عن زراعتها، خلال الفترة الماضية.
يلفت نقيب الفلاحين إلى اعتياد المصريين على زراعة الخضروات في المساحات الصغيرة المتبقية على أطراف القرى والمدن، وتسويقها إلى المناطق القريبة منها طازجة بسعر منخفض، ومع اختفاء تلك المساحات، تحولت إلى الأراضي الجديدة والمساحات المفتوحة التي يصل إيجار الفدان فيها إلى نحو 35 ألف جنيه سنوياً (720.2 دولاراً)، مع حاجتها إلى السماد والنقل والعمالة، التي ارتفعت تكلفتها، متأثرة بزيادة أسعار المحروقات والكهرباء والغاز، وسرعة التلف وارتفاع الهالك الذي يبلغ نحو 30% من الخضروات.
يتوقع أبو صدام أن تتراجع أسعار البقدونس، وباقي الخضروات مع حلول موسم الشتاء، الذي تساعد أجواؤه على خفض معدل الري وزيادة الإنتاج. تأتي توقعات النقيب مخالفة لما يراه مصطفى خليل، أحد المزارعين وتاجر الخضروات في قرية ناهيا غرب العاصمة القاهرة التي يعمل أكثر أهلها في زراعة وتجارة منتجات الخضروات العطرية كالبقدونس والشبت، وتعد المورد الأول لأسواق القاهرة الكبرى، وشركات تصدير الحاصلات الزراعية.
يقول خليل إن حالة الغلاء فرضت على مزارعي الخضروات رفع الأسعار للسوق المحلية والدفع بأكبر قدر من الإنتاج إلى أسواق الخليج، عبر نقله طازجاً في برادات ضخمة، تسافر يومياً بين ميناءي سفاجا المصري وضبا السعودي على البحر الأحمر، وأخرى تتجه إلى التجفيف بمصانع خاصة، لتنقل إلى الأسواق الأوروبية وتركيا وروسيا مباشرة.
تتوارث منطقة ناهيا وعدد من القرى في محافظات الشرقية والجيزة والمنيا وبني سويف زراعة البقدونس، عبر أجيال. تجود زراعته في قرية المهدية، التابعة لمركز ههيا بمحافظة الشرقية على بعد 120 كيلومتراً شمال العاصمة، حيث الأرض السمراء الخفيفة، على مساحة ألف فدان، بالتوازي مع 3 آلاف فدان أخرى مخصصة لزراعة الشبت والكزبرة والكراث والخضروات. يوجه المزارعون إنتاج تلك المنطقة إلى محافظات قناة السويس ووسط الدلتا، ويطلقون عليه "الذهب الأخضر" بعد أن أصبح أهم مصدر للدخل، والأفضل قيمة من أي زراعات، أو تربية المواشي.
تكثر زراعة البقدونس الناعم "البلدي" في الأرض السمراء، وحيث التربة الصفراء قليلة الأملاح، الخفيفة والخصبة، مع عدم حاجته إلى المياه إلا مرة واحدة أسبوعياً في الصيف وكل عشرة أيام في الشتاء، رغم عشقه للشمس الساطعة، وقدرته على التكيف مع درجات الحرارة العالية والمنخفضة.
يحصد المزارعون البقدونس بعد شهرين من تاريخ الزراعة، ويمكن تكرار الحصاد مرة كل شهر، بمعدل خمس "حشات"، بمتوسط إنتاج ما بين 4 إلى 4.5 أطنان بكل حشة (قطع)، بما يرفع الإنتاجية الإجمالية للفدان من 20 إلى 24 طناً خلال الموسم الزراعي.
تخصصت عشرات شركات النقل والحاصلات الزراعية في كل من بني سويف والجيزة والشرقية في تصدير النباتات العطرية والطبية. ولجأت كثير من الشركات إلى تصديره طازجاً إلى الأسواق العربية، بينما قامت أخرى بتجفيف البقدونس المجعد، وتصديره إلى الخارج، حيث تعطي ثمانية أطنان طازجة طناً واحداً من البقدونس المجفف، تصل قيمته إلى 1500 دولار.
تظل أسعار البقدونس رهينة أسعار الأسمدة التي تشهد ارتفاعاً جنونياً في مصر، متأثرة بتوقف مصانع الأسمدة عن العمل لفترات زمنية طويلة، بسبب نقص إمدادات الغاز من وزارة البترول، وارتفاع أسعار التوريد. وتحظر الحكومة منح الأسمدة المدعمة عبر الجمعيات التعاونية الزراعية لمزارعي الخضروات والفاكهة، بما يدفعهم إلى شراء احتياجاتهم من السوق السوداء، بسعر تجاوز 1200 جنيه (24.7 دولاراً) لشيكارة (عبوة) الأسمدة زنة 50 كيلوغراماً، بدلاً من 250 جنيهاً بالسعر الرسمي. وتضاعفت أسعار السماد، خلال موسم الزراعات الصيفية في السوق الحرة، من 13 ألفاً إلى 24 ألف جنيه للطن.
وزاد الطلب على البقدونس مع اختفاء كثير من الأدوية وتضاعف أسعاره خلال الشهرين الماضيين، عقب انهيار الجنيه أمام العملات الصعبة، في 6 مارس/آذار 2024، أفقده نحو 50% من قيمته أمام الدولار، ودفع مصانع الأدوية إلى التوقف عن الإنتاج، لحين السماح لهم برفع الأسعار ووضع آلية تمنحهم زيادة الأسعار وفقاً لسعر الصرف كل ثلاثة أشهر. فقد مارست شركات استيراد الأدوية ضغوطاً على الحكومة، أسفرت عن سداد 10 مليارات جنيه من المتأخرات المستحقة لها، بقرار من رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، نهاية الأسبوع الماضي، مع ذلك تعطلت عن توفير مستلزمات الإنتاج للمصانع، لعدم توافر الدولار الكافي لسداد قيمة الواردات من مستلزمات التشغيل والأدوية المستوردة.
يصف الأطباء البقدونس لمرضى السرطان، لاحتوائه على عناصر الفلافونويد والبيتا كاروتين واللوتين المضادة للأكسدة، وتدعم القلب وجهاز المناعة، وتقي الجسم من الأورام السرطانية. وتساهم الفيتامينات الموجودة بالقدونس في الحماية أيضاً من أمراض العظام، وتقوية النظر، بالإضافة إلى قدرته على مقاومة البكتريا الضارة بالجسم ومقاومة الجراثيم، بما يحمي مرضى السكري من تلف الكبد، وخفض السكر في الدم، ويمنع تشكل الحصى في الكلى، ويساعد زيته العطري في علاج الحالات المرضية المرتبطة بالحساسية الموسمية.
يدخل البقدونس في تزيين كل أطباق الفقراء، فرائحته الذكية تجعل منه شريكاً لا غني عنه في أطباق المقبلات، وشوربة الخضروات والسلطات، ولا قيمة للوجبات الشعبية كالمحشي بدونه، حيث يضاف مع الطماطم والبصل والكزبرة والشبت، وكثيرون يستعملونه مع النعناع أو الفاكهة، لعمل مشروب فواح رخيص الثمن عالي القيمة الغذائية. كما يظل ملكاً متوجاً على عرش أطعمة الأغنياء الذين يستخدمونه بكثرة، في أطباق الكباب والكفتة لإضافة مذاق لذيذ إلى مكوناتها، وحفظ درجة حرارة المشويات في الأوعية، للاستمتاع برائحتها الذكية لأطول فترة ممكنة، بالتوازي مع وجبات الحمام المحشو بالفريك والأرز والبرغل، مع الطماطم والبصل والنعناع، وخلطه بزيت الزيتون واللبن الرائب، والليمون والملح لعمل سلطة لينة ذات مذاق خاص.