فن الكذب في خطر

 

من العادات المستقبحة المستوردة كذبة الأول من نيسان فأحببت أن أستبقها بما يرتفع عن الخاطرة , ولا يصل إلى المقالة المحكمة مستعيرا العنوان من محاضرة للكاتب الأمريكي (مارك تواين) (فن الكذب في انحطاط) والتي جاء فيها : "لست أزعم أن عادة الكذب تعاني ضعفا أو تشكو انحطاطا، فالكذب هو مبدأ خالد وفضيلة أزلية. وفي الكذب تسلية للمكروب وعزاء للعاني وملجأ أمين للبائس. إن الكذب صديق الإنسان الأول ورفيقه الأمثل.... " ويضيف مخاطبا المؤرخين : " ولا خوف على الكذب من الزوال وأنتم في الوجود، معشر المؤرخين. . وإن كنت أشكو فما أشكو سوى انحطاط فن الكذب، وأي إنسان رزق الكياسة في التفكير والصدق في العاطفة يرى الكذب السمج يروج في عصرنا هذا ولا تأخذه سورة الغضب وتثور به النخوة والمروءة؟!. أي عاقل مهذب لا يسوءه هذا الفن الرفيع أن يتبذل؟!." ؟؟؟؟

لقد أصاب (مارك تواين) كبد الحقيقة فهذا الفن الرفيع يتعرض لانحطاط فظيع بسبب ما أسماه بالكذب السمج , وبتعبير البدو " الكذب المصلّع " = المكشوف الواضح , ولذلك قالوا كيف عرفت أنّها كذبة ؟ قال من كبرها !‍! وهذا الصنف من الكذب يستثير غضب العقلاء ويرفع ضغطهم وربما أدّى إلى إصابتهم بمرض السكري أو جلطة عاجلة , وأشدّ ما يكون هذا الصنف استفزازيا عندما يمارسه الإعلام الرسمي , وتزداد مصيبة العاقل عندما يشاهد الناس تتقبل مثل ذلك الكذب السمج بدون نقاش فلا يكون عزاؤه إلاّ في مثل تلك القصّة التي رواها صاحب كتاب الأغاني عن العتابي عندما عوتب على الأكل في السوق باعتبار ذلك الفعل من خوارم المرؤوة وقصة حديثه المختلق " من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار " ليبين لمن انتقده بأنّه على حقّ فيما فعل !!!

تابعنا قصص منشورات أصحاب غزوتي نيويورك وواشنطن المزعومة التي روجّها الإعلام الأمريكي , وهي تخاطب قائدي الطائرات التي تفحمت صناديقها السوداء ونجت منشورات الغزاة وأجوزة سفرهم من ذلك الحريق الجهنمي الرهيب , وهي تقول " اقتلوهم وأسلوبهم , وخذوا نسائهم سبايا ... وسمعنا قصص أسلحة الدمار الشامل في العراق , وسمعنا قصص الملائكة التي تسقط الطيران الروسي في الأفغان وصدقنا كل ذلك , ولم ننتبه لاحتجاب الملائكة وإختفائها عندما احتلت أمريكا تلك البلاد ومطرتها بجهنم البي 52... وفي القضايا الداخلية اعتدنا صباح مساء أن نسمع عكس ما نشاهد , فيضطر أحدنا للقول : " كذبت بصري وآمنت بما يقولون " آمنا بأن من يمتلك بندقية إنجليزية واحدة فقط من ماركة فيلد الأثرية التي أستخدمت بالحرب العالمية الأولى قادر على أن يقلب أنظمة حكم ويتحدى جيوش , وآمنا بأن منقاش ببندقية البرلو الأثرية يسقط طائرة الكوبرا والأباتشي , وآمنا , وصدقنا , وجزمنا , وأعتقدنا بقصص كثيرة أهونها الاغتيال بواسطة البف باف ... فهل يلام(مارك تواين) إن خرج للسوق عاريا , رافعا عقيرته صارخا بأنّ فن الكذب في خطر .

وللتذكير فقط فالجميع يعلم أنّ الكذب رذيلة أجمع على تقبيحها جميع عقلاء الإنسانية على اختلاف مللها ونحلها وأديانها , وأما في الإسلام فهو كبيرة من الكبائر المهلكة المانعة من الهداية إذ يقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز " إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ " والمقصود بالهداية أن يهديه الله لما ينفعه في الدنيا والآخرة , وبين الحديث الشريف تنافي الكذب مع الهداية والتوفيق " و إن الكذب يهدي إلى الفجور, و إن الفجور يهدي إلى النار, و إن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا " , وأشد ما يكون قبحا وتحريما عندما يصدر من ولاة الأمر , وأصحاب السلطان ففي الحديث الصحيح : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا يزكيهم و لا ينظر إليهم و لهم عذاب أليم : شيخ زان , وملك كذاب وعائل مستكبر " وحذّر الأمّة من هذا الصنف وتوعد مصدقيهم بالعقوبة القاسية فجاء في الحديث الصحيح :(أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي لَا يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي , وَلَا يستنُّون بسنَّتي فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكِذْبِهِمْ ,وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي ولست منهم , ولا يردون عَلَيَّ حَوْضِي )) .