مسؤولية الثقافة في مواجهة الإحباط
لا يستطيع أحدٌ أن ينكر أنّ ثمّة قدْراً غير قليل من الإحباط يتفشّى في المجتمع نتيجة ما تتعرّض له الأمّة من عدوانٍ واستباحةٍ لأراضيها ودماء أبنائها ولا سيّما في غزّة والضفّة الغربيّة، ولا يستطيع أحدٌ كذلك أن ينكر أنّ ثمّة قدراً من التفاؤل العميق بإمكانية التغلّب على التحدّيات الأمنية والاقتصادية والثقافية وغيرها ممّا تتعرّض له الأمّة، إلا أنّ التقصير في مواجهة حالة الإحباط المتفشّية قد يؤدي إلى تعمّق هذه الحالة في المجتمعات العربيّة وانتشارها بحيث تقضي على فرص الشعور بالتفاؤل قضاءً تامّاً، لذلك لا بدّ للمجتمعات العربيّة من الالتفات إلى هذا الخطر وإعداد العدّة اللازمة لمواجهة مشاعر الإحباط واليأس وعدم السماح لها بالتغلّب على مشاعر التفاؤل والأمل بالنجاة والنجاح.
ومع أنّ جميع القطاعات التربوية والدينية والإعلامية والثقافية مسؤولة عن النهوض بهذا الواجب الوطني الحيوي، إلاّ أنّه يقع على عاتق قطاع الثقافة العبء الأكبر في هذه المواجهة بين الإحباط واليأس من جهة والتفاؤل والأمل من جهة أخرى. ولا أقصد هنا بالثقافة المؤسّسات الثقافية الرسميّة فقط بل أقصد كذلك المثقفين وكلّ من له اتصال بالعمل الثقافي وكذلك فحوى المنتج الثقافي، حيث أنّ هذه العناصر مجتمعة هي التي تعطي للمجتمع صورته الحقيقية وملامح شخصيته وتحفظ له قيمه وإرثه وثوابته كما تعكس أحلامه وتطلعاته وآماله وأشواقه وتدفع باتجاه تحقيقها، وهي التي تصنع الدافعية وتعزّزها نحو مواجهة التحدّيات وتخطّي الأزمات.
وللمؤسّسات الثقافية الرسميّة والأهلية دورٌ كبير في تحمّل هذه المسؤولية، من خلال وضع استراتيجيات وخطط مدروسة بعيدة المدى للعمل الثقافي المنتج والمؤثّر والقادر على تعزيز ثقة المجتمع بنفسه وبقدراته. وتستطيع هذه المؤسّسات من خلال منتجها الثقافي سواءً أكان منشورات أم أعمالاً فنيّة مختلفة الحقول أم صناعات ثقافية وتراثية وإبداعية أن تبرز مواطن القوّة في المجتمع وتسلّط الضوء على نماذج النجاح والتميّز ومواقف البطولة والغلبة والتفوّق، وأن تلفت الأنظار إلى أسباب النجاح وعوامل التفوّق والتميّز. إنّ صناعة الأمل واجتثاث الإحباط في مجتمعات تواجهها عوامل كثيرة للإحباط هي مهمّة صعبة وعسيرة لأنّها تتّصل بالعقول والأذهان والنفوس أكثر من اتّصالها بالأبدان، وتحتاج إلى جهود متواصلة ومكثّفة وبالغة الدقة، ولا بدّ للمؤسّسات الثقافية من أجل النجاح في مهمّتها هذه من الاستعانة بعلماء النفس وعلماء الاجتماع والمؤرّخين إلى جانب توظيف الوسائل الأدبيّة المختلفة من شعر وقصة ورواية ومسرحية وخاطرة ومقالة والوسائل الفنية من غناء وموسيقى وتمثيل وفن تشكيلي ونحت ورسم كاريكاتوري وصناعات تراثية وغيرها.
أما المثقّفون من أدباء وفنانين وكتّاب وباحثين وأساتذة جامعات وسواهم فهم أحقُّ الناس بأن تتجلّى في أعمالهم الفكرية والأدبيّة والفنيّة والعلمية وفي آرائهم وإبداعاتهم مظاهرُ التفاؤل والأمل، ومتى وقع هؤلاء في شباك اليأس والإحباط فإنّ ذلك يمثّل مؤشّراً خطيراً على الاستسلام والضياع، وذلك أن المثقف هو المنافح الأخير عن قلاع الثقافة التي هي الجدار الأخير من جدران صمود المجتمع ومنعته، ولذلك فإنّ المطلوب من المثقفين أن يكونوا أكثر صبراً واحتمالاً وتماسكاً، وأن يشحنوا أعمالهم بكلّ ما يعزّز ثقة المجتمع بنفسه ويقدراته، ولدى هؤلاء المثقفين في مجالات اختصاصاتهم المتنوّعة فرصٌ لا تحصى ووسائل لا تعدّ من أجل النهوض برسالتهم الوطنية والاجتماعية في الحفاظ على معنويات أبناء المجتمع ومقاومة إحباطهم، فالشعراء على سبيل المثال يستطيعون شحن أبناء المجتمع بالشعور بالقوّة والعظمة والقدرة على الثبات والصمود وتحقيق الآمال، والقاصّ يستطيع بخياله الخصب أن يرسم العالم الذي نطمح إلى تحقيقه، والفنان التشكيلي يرسم أو ينحت لنا النموذج الإنساني الذي نسعى إليه، وأما المحلّلون والمؤرّخون فلهم دورٌ بالغ الأهميّة في التصدّي لحالات الإحباط المجتمعي، وذلك من خلال ربط الأحداث بأسبابها وخلفيّاتها والتنبيه إلى الظروف التي يمكن أن تصنع أسباب الغلبة والانتصار، كما أنّ المحلّلين والمؤرّخين يستطيعون من خلال ربط قراءاتهم المتنوّعة واطّلاعهم على التجارب السابقة محليّاً وعالميّاً أن يذكّروا أبناء المجتمع بالنقاط المضيئة في التاريخ وأن يرتقوا بوعي أبناء المجتمع، كما يذكّروننا بالانتصارات السابقة وعوامل تحقيقها، ويحذّروننا من اتّباع السبل التي تؤدي إلى خسارتنا وهلاكنا.
أما فحوى المنتج الثقافي فهو ما ينبغي إيلاؤه عناية كبيرة ما دام هو الذي نطمح أن تستخدمه مجتمعاتنا في مواجهة حالة الإحباط، وذلك أن هنالك أعمالاً ثقافية تزيد الناس إحباطاً وتقوم بدور انهزاميّ خطير، وهنالك في المقابل أعمالٌ إبداعية وفكرية وثقافية وفنيّة تتصدّى للإحباط بكلّ قوّة وإصرار، وهذا النوع الثاني من الأعمال ينبغي على المثقفين والمؤسّسات الثقافية أن تقدّم له الرعاية والدعم والإشهار بكلّ الوسائل الممكنة، ولا بدّ من أجل دعم هذه الأعمال من التنسيق مع المؤسّسات الإعلامية والنهوض بالإعلام الثقافي الذي لا غنى عنه من أجل تحقيق هذه الأهداف الوطنية. وما دام للمنتج الثقافي هذه الأهمية في مواجهة الإحباط التي تعني تنقية المجتمع من عوامل انهياره، فلا بدّ من العناية بفحوى هذا المنتج عناية بالغة، كي تكون هذه الفحوى قويّة وجذّابة ومقنعة ومؤثرة وفاعلة، وهذه مسؤولية تقع على عاتق المثقفين والمؤسسات الثقافية وبدعم من مؤسسات المجتمع كافّة.
Salahjarrar@hotmail.com