لن تردعهم رادعة عن دراسة الطب
ما زلت أذكر طفلي كيف جاءنا ساخراً بعد أول يوم في مدرسته الجديدة، لأن معظم أبناء صفه يريدون أن يصبحوا أطباء بعدما سألتهم المعلمة عن رغباتهم المستقبلية. وهذا بالطبع لم يفرق كثيرا عن وضعنا حينما كنا بمثل أعمارهم، فبوصلة جل أبناء جيلنا والجيل الذي جاء بعدنا أو سبقنا كانت تشير إلى تلك الجهة تحديداً.
من المؤكد أن هذه الرغبة ليست للأبناء بشكل كلي، بقدر ما هي رغبة الآباء والأمهات والمجتمع بشكل عام. فما من طفل أصادفه إلا ويريد أن يدرس الطب، مع أن رغبته الحقيقية قد تكون التدريس أو أن يصبح رجل إطفاء، أو رائد فضاء، ولكن حرف الدال يسحرهم ويجرهم. وهذه عقدة اجتماعية متأصلة كبرت معنا، فحتى بعض المهندسين لا تقنعهم «ميمهم» ويرنون إلى أن يدعموا أسماءهم دالاً قبلها، وينسحب الأمر إلى مهن أخرى وصلت إلى الأدب أحياناً. فنجد مصطلح الدكتور الشاعر، مع أن الاسم المجرد يكفي الشاعر والكاتب والأديب والفنان، والمكتفي بذاته.
حددت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عدد الطلبة الذي سيقبلون في تخصص الطب البشري ب800 طالب وطالبة في الجامعات الحكومية، التي كانت تقبل قبل سنتين أضعاف هذا العدد. وهذا الأمر يشعر طلبة الثانوية لهذا العام بالظلم نسبياً. فلماذا جاء تصحيح المسار على دورهم؟ لماذا هم تحديدا؟ فنحن توسعنا بقبول تخصصي الطب البشري والأسنان بشكل منفلت دون ضوابط، وتحت رغبات الجامعات بتحصيل مورد مالي وفير. وهذه النتيجة أمامنا. فقد تأزر الانفلات مع رغبة المجتمع بدراسة هذين التخصصين، ولا فكاك من هذا.
تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 27 ألف طالب وطالبة يدرسون الطب البشري داخل الأردن وخارجه. وهذه أزمة عميقة تنتظرنا. فكيف سنوفر لهم دراسة التخصص العالي أو الوظائف؟ ونحن الآن نسمع عن مستشفيات خاصة صارت تأخذ بدلا نقديا من الطبيب الشاب لتتيح له أن يتخصص فيها.
الإحصائيات المرعبة والتحذيرات الكثيرة لم تجد نفعا. فالمجتمع لم يأبه بها ويتجاوزها. ولهذا فالطلبة الذين لن يحصلوا على مقاعد في الجامعات الرسمية سيدرسون في الجامعات الخاصة وباسعار فلكية، أو أنهم سيسافرون ويحصلون على شهاداتهم من خارج البلد وبالعملة الصعبة والمشقة. يعني أن دراستهم حاصلة حاصلة ولن تردعهم رادعة عن دراسة الطب.
ربما كان على أصحاب القرار أن يتبنوا إستراتيجيات أخرى.