العرب بلا قضية فلسطينية
منذ ولادتها، شكّلت القضية الفلسطينية تحدّياً مركزياً ورئيساً أمام العالم العربي مجتمعاً، وأمام كلّ دولة عربية على حدة، ولذلك اكتسب الصراع العربي ـ الإسرائيلي اسمه من هذه المركزية. وبحكم أثر ولادة إسرائيل دولةً غريبةً على دول المنطقة، دخل الصراع في المكوّنات الداخلية للدولة القُطرية العربية، ووظّف في إطار الصراع الداخلي على السلطة، سواء كانت هذه الدولة قريبة من إسرائيل أم بعيدة عنها.
وفي مدى هذه العقود، وبسبب الانشغال الدائم للسياسة العربية بالقضية الفلسطينية، لم يكن ممكناً تصوّر العالم العربي بدون قضية فلسطينية، فهي التي غُطّي من خلالها، لا على السياسات الداخلية الملتوية فحسب، بل على جرائمَ داخل الدول القطرية أيضاً، وفي كلّ مرّة تحت شعار مركزية الصراع مع إسرائيل، و”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
لم تكن هذه نظرة السلطات الرسمية العربية إلى القضية الفلسطينية فحسب، بل شملت هذه النظرة أحياناً المُعارَضات العربية أيضاً، ومثقّفين عرباً كثيرين، فالجميع انشغل بالصراع المركزي، الذي اعتُبر "صراعاً وجودياً” بين العرب وإسرائيل، وأنّ على كلّ قوّة سياسية عربية تحديد موقفها من القضية الفلسطينية، وأن تكون فاعلاً مباشراً في هذا الصراع، ومن ثم، هي جزء مكوّن من القوى المصطفة (نظرياً) في الصراع مع إسرائيل، مصطفة في الصراعات الداخلية القُطرية (عملياً)، ما يعطيها الحقَّ في أن تأخذ ما شاءت من المواقف، وأن تتدخّل في الشؤون الفلسطينية، بشكل لا يمكن أن تتدخّل فيه في دولة عربية أخرى، على قاعدة أنّ القضية الفلسطينية هي قضية العرب، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم.
في إطار هذه النظرة الاستخدامية للصراع العربي ـ الإسرائيلي من السلطات العربية أو المُعارَضات أو المثقّفين أصحاب الأصوات العالية، أُعطى الفلسطينيون دوراً بوصفهم طليعة الصراع مع إسرائيل، والمتراس الأول الذي يجب أن يظلّ قائماً أبد الدهر، لأنّ الصراع لا نهائي.
ولأنّه كذلك، لا تصلح فيه أيُّ تسويةٍ، وهو ما ولدت على خلفيته لاءات القمّة العربية في الخرطوم 1967، بعد هزيمة حزيران، "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف”. ولم يُتعاطَ مع الفلسطينيين بوصفهم بشراً يستحقّون الحياة العادية، ويستحقّون ألّا يكونوا وقوداً مستمرّاً في محرقة الصراع المستمرّة منذ أكثر من قرن.
ولم يتورّع بعضهم عن تحميل الفلسطينيين المساكين مسؤولية مهامَّ تاريخيةٍ عجزت الدول العربية مجتمعةً عن القيام بها، وكان أيّ حلّ لهذا الصراع يمسّ مكانته في المخيّلة العربية حلّاً مرفوضاً، على قاعدة أنّ هذه المكانة أكثر أهمّية من مصير الشعب الفلسطيني، الصامد والمناضل والمضحي والمقاتل… إلخ، من تعبيرات شعاراتية، ولكن إلى متى؟… لم يسأل أحد نفسه هذا السؤال.
لكن هذا الواقع لم يلبث أن تغيّر، وبدأت الدول العربية، تبحث عن مصالحها الخاصّة، وتبريرها بوطنياتٍ جديدة، وبمصالحَ خاصّة، ولدت من خلال التسوية الأولى مع إسرائيل، عندما عقدت مصر صلحاً منفرداً معها، والذي عُرف باتفاق كامب ديفيد 1978، الذي برّره الرئيس الأسبق أنور السادات بأن مصر استعادت أراضيها الوطنية.
أخرجتها هذه الاستعادة من الصراع، وأصبحت مربوطة مع إسرائيل باتفاقات سلام، وبتبادلٍ دبلوماسي برعاية أميركية. فتحت هذه الاتفاقات الباب أمام الدول العربية الأخرى للتراجع عن ارتباطها بالقضية الفلسطينية. وظهرت في دول عربية عديدة دعوات إلى وطنيات جديدة، تفكّ العلاقة، ليس مع القضية فحسب، بل مع الدول العربية أيضاً، على أساس من أولويةٍ للدولة الوطنية.
وجدت هذه الدعوات مروّجيها، حتّى في أوساط المُعارِضين في هذه الدول، خاصّة الدول التي استُخدمت شعارات القضية الفلسطينية فيها لقمع المُعارَضة الداخلية. فبعض الدول أصبحت تعتبر القضية عبئاً عليها، لأنّها تريد إقامةَ علاقات مع إسرائيل، على اعتبار أنّ إسرائيل حليفتها، في الوقت الذي يعيق وجود القضية الفلسطينية هذه العلاقات. ومن جهة أخرى، بات من المطلوب التخلّص من هذه القضية لدى بعض النُّخَب، لأنّها تعيق تطوّر المُعارَضة في بلدان تحكمها ديكتاتوريات تقمع البلد بذريعة الصراع مع إسرائيل.
راهنت بعض الدول أن تُحلّ هذه المشكلة مع وعود السلام في مؤتمر مدريد 1991، وتُرك الفلسطينيون وحدهم في هذه المفاوضات، أصبح العرب يقولون إنهم يوافقون على ما يوافق الفلسطينيون عليه، وإنهم ليسوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، علّ هذا التخلّي يُشكّل ضغوطاً على الفلسطينيين تُؤدّي إلى تقديم تنازلات تدفع للوصول إلى اتفاقات مع إسرائيل.
ولكن ما تبيَّن أنّ إسرائيل ليست جادَّة في إيجاد حلّ، وفي الوصول إلى حلّ وسط مع الفلسطينيين، رغم كلّ التنازلات التي قدّموها، في وقتٍ تسعى فيه إلى تطبيع علاقاتها مع الدول العربية، وترك الصراع مع الفلسطينيين تحت السيطرة ومن دون حلّ.
أقامت دول عربية عديدة علاقاتٍ سرّيةً مع إسرائيل، كان السرَّ العلني في المنطقة، ولكن هذا النوع من العلاقات السرّية لم يعد كافياً، لا لإسرائيل ولا للدول العربية. انتظرت بعض الدول مجيء دونالد ترامب رئيساً للولايات المتّحدة لفكّ علاقتها النهائية مع القضية الفلسطينية، والارتباط باتفاقات وتمثيل دبلوماسي مع إسرائيل، من خلال اتفاقات أبراهام التطبيعية.
وأسّست هذه الاتفاقات نوعاً جديداً من العلاقات في المنطقة، تتجاوز الأسس كلّها التي بُنيت عليها الخريطة السياسية في المنطقة بعد تأسيس دولة إسرائيل، وقنوات التحالفات والصراعات التي سادت عقوداً، وهو ما ظهر في الحرب الوحشية التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزّة. فلم تُؤدِّ هذه السياسة الإسرائيلية الوحشية إلى أيّ ردّة فعل عند الدول المُطبّعة، أو حتّى التهديد بسحب السفراء. على العكس، تُطوّر العلاقات البينية، حتّى العسكرية، بين إسرائيل وبعض هذه الدول العربية، في وقتٍ تجري فيه المذبحة في قطاع غزّة.
ليس ما يجري في المستوى الرسمي العربي تحرّراً من القضية الفلسطينية فحسب، بل إشاحة النظر عن الدم الفلسطيني المُسال أيضاً، وكأنّ ما يجري في فلسطين لا يعني هذه الدول، ولا يمسّ أمنها الوطني، هذا إذا كان لهذه الدول مثل أمنٍ كهذا.