خريجو التوجيهي والاستعداد لوظائف المستقبل

في كل صيف، يتحول الأردن إلى ساحة معركة غير مرئية؛ حيث يتنافس عشرات الآلاف الطلبة على مقاعد الجامعات، ويعيشون دوامة أي التخصصات المهنية سيدرسون، حاملين معهم أحلاما وطموحات كبيرة.


ويطمح غالبيتهم الساحقة في الدراسة الجامعية استنادا إلى فرضية أن الشهادة الجامعية هي المفتاح السحري لحياة مهنية مزدهرة. للأسف، الواقع يروي قصة مختلفة تماما.
ندرك تماما أن تأثير التوجيهات والإرشادات على اختيار التخصصات المطلوبة في أسواق العمل، وخاصة سوق العمل الأردني يعد ضعيفا، وفي أفضل الأحوال، متوسطا؛ إذ إن الثقافة السائدة في مجتمعنا تكرس للدراسة الجامعية ولبعض التخصصات الجامعية التقليدية، مثل التخصصات الطبية والهندسية والمحاماة، وأنها تمنح دارسيها مكانة اجتماعية مرموقة، مما يدفع الكثير من الطلبة لاختيار هذه التخصصات حتى لو لم تكن تتناسب مع ميولهم وقدراتهم.
يعتقدون أن هذه التخصصات تضمن لهم وظيفة مرموقة وراتبا مجزيا، ومكانة اجتماعية رفيعة. ولكن ما لا يدركونه هو أن سوق العمل يتغير بسرعة، وأن هذه التخصصات لم تعد تضمن النجاح كما كانت في الماضي. النتيجة الحتمية لهذا التفكير هي فائض هائل من الخريجين في تخصصات معينة، ونقص حاد في تخصصات أخرى يحتاجها سوق العمل، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين الشباب، ويزيد من معاناة الشباب.
التعليم ما بعد المدرسي، وخاصة الجامعي، يفترض أن يزود الطلبة بالمعارف والمهارات التي تؤهلهم للانخراط في سوق العمل، بغض النظر عن التخصص. لأن أسواق العمل تتميز بديناميات خاصة ودائمة التغير، ما يجعل نسبة كبيرة من العاملين يشغلون وظائف لم يدرسوها في المعاهد ولم يفكروا بها سابقا.
الارتفاعات الكبيرة في معدلات البطالة في الأردن التي تعد من بين الأعلى في العالم خاصة بين فئة الشباب، ليس سببها تراجع معدلات النمو الاقتصادي فقط، بل هنالك أسباب أخرى لا مجال للدخول في تفاصيلها، ولكن أهمها الاختلالات الكبيرة في هيكل التعليم بشكل عام في الأردن، حيث إن غالبية الطلبة الذين أنهوا التعلم المدرسي يلتحقون في الجامعات الرسمية والخاصة، والقليل من الطلبة يدرسون في المعاهد المتوسطة ومعاهد مؤسسة التدريب المهني، بعكس ما يحدث في الدول المتقدمة اقتصاديا، ولديها أسواق عمل نشطة وفعالة ومعدلات بطالة منخفضة، وهذا الواقع لم يأتنا صدفة أو قدرا، بل كان نتيجة حتمية لسياسات تعليم ضعيفة تعكس اختلال موازين القوى الاجتماعي والاقتصادي في الأردن، وأصبح لدينا توسع في أعداد الجامعات والمدارس الخاصة، على حساب التعليم الحكومي المدرسي والجامعي.
أصبح واضحا أن اقتصادنا الوطني، كغيره من الاقتصادات العالمية، يخلق وظائف بشكل مستمر -رغم قلتها، ولكن معظمها يحتاج إلى مهنيين وتقنيين ذوي مهارات متوسطة وعالية، إلا أن منظومة التعليم في الأردن لا تستجيب لحاجات الاقتصاد. لذا، نحن بحاجة الى إصلاحات حقيقية في منظومة التعليم في وقت مبكر من حياة الطلبة، إلى نظام تعليمي مرن ومفتوح، يسمح للشباب الطموحين بالتطور في مختلف التخصصات والمستويات.
في ظل هذا الواقع، يجب علينا تشجيع الطلبة وأولياء أمورهم على اختيار التخصصات المطلوبة في سوق العمل، والابتعاد عن التخصصات التقليدية التي لم تعد تضمن النجاح المهني. هناك مئات الوظائف التي يخلقها التطور الاقتصادي والتقني، ويطلق عليها وظائف المستقبل، ويمكن للطلبة التعرف عليها من خلال تصفح المواقع الإلكترونية والعمل على اكتساب المهارات اللازمة للعمل بها، مما يوفر عليهم سنوات طويلة ومعاناة كبيرة في التعليم الجامعي من حيث الوقت والتكلفة.
اختيار التخصص المهني بغض النظر عن مستواه، هو قرار مهم يؤثر على مستقبل الشباب المهني والشخصي، لذلك علينا أن نتوقف عن النظر إلى هذا القرار على أنه مجرد إجراء شكلي، يحقق مكانة اجتماعية -على الأغلب مكانة وهمية، وأن نبدأ في التعامل معه بجدية ومسؤولية، تأخذ بعين الاعتبار حاجات سوق العمل واتجاهاته المستقبلية.