«غوانتانامو»... العدالة الأميركية المنقوصة

خمسة وثلاثون يوماً تفصلنا عن الذكرى الثالثة والعشرين لأكثر الهجمات شهرةً في تاريخ الولايات المتحدة والعالم، هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، التي أودت بحياة ما يقرب من ثلاثة آلاف ضحية، منهم الأميركيون ومنهم منتمون لجنسيات مختلفة. هذه المرة سوف ترتبط تلك الذكرى الحزينة بما جرى في الأيام القليلة الماضية بخصوص ما عُرف باتفاق إقرار الذنب لثلاثة من المتهمين، أحدهم الأكثر شهرة، وهو خالد شيخ محمد، المُتهم بكونه صاحبَ فكرة استخدام الطائرات المدنية لضرب أهداف ذات رمزية عالية في الداخل الأميركي، والشائع أنه عرضها على بن لادن زعيم «القاعدة»، وبدوره رحَّب بالفكرة وأمر بالإعداد لتنفيذها على النحو الذى بات معروفاً وفقاً للرواية الأميركية.

 

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

إقرار الاعتراف بالذنب الذى أعُلن عنه، كخطوة لإنهاء المحاكمة التي طال زمنها لعقدين تقريباً، نظير عدم الحكم بالإعدام للمتهمين الثلاثة، وقبول السجن مدى الحياة، تم إلغاؤه بقرار حاسم من وزير الدفاع باعتباره صاحبَ السلطة العليا في مثل هذه الأمور، مُعيداً الأمور مرة أخرى إلى حالة اللايقين من إتمام المحاكمة، وبالتالي استمرار وضع المتهمين الثلاثة مُعلقاً، مقروناً بعدم الجزم بمسؤولية المتهمين عن الأفعال التي يُتهمون بها.

طوال العقدين الماضيين جرت جلسات استماع عديدة بلغت المئات للكثير من المتهمين الذين بلغوا 800 شخص، تم اعتقالهم في سجن «غوانتانامو» شديد الحراسة سيئ السمعة، والواقع في إحدى القواعد الأميركية في جنوب شرق كوبا، ولكونه خارج الأراضي الأميركية، والتحرر من تطبيق القانون الأميركي على ما يجري فيه، ضد من يُعدّون وفقاً لقرار الرئيس بوش الابن أعداء الأمة الأميركية، كان طبيعياً أن يُمارس ضد هؤلاء الأعداء الكثير من الانتهاكات الإنسانية والتعذيب وسوء المعاملة لأغراض الإذلال والإهانة والحصول على معلومات عن عمليات إرهابية مفترضة قد يكونون على علم بها، ومنهم من سبق له التعرض لأنواع بشعة من التعذيب الجسدي والنفسي فيما يعرف بالسجون السرية التابعة للاستخبارات الأميركية في عدة بلدان حول العالم، أبرزهم خالد شيخ محمد نفسه، وهي الأساليب التي وصفت تفصيلاً في أحد تقارير الكونغرس الأميركي، وأدَّت إلى فقدان بعض المتهمين قدراتهم العقلية تماماً، كرمزي بن الشيبة يمني الجنسية، الذى أسقطت قضيته، فضلاً عن الإصابة بأمراض خطيرة وفقدان القدرة على الحركة وعدم التحكم في أعضاء الجسم كلية، مما تعذر معه إجراء المحاكمة لهؤلاء، وقُضي الأمر بترحليهم إلى بلدان مختلفة باتفاقات خاصة لقضاء فترات غير معلومة من السجن، ولم يبقَ سوى 30 معتقلاً بلا محاكمة.

يذكر هنا أن قراراً سابقاً للكونغرس الأميركي يمنع تقديم أي علاج أو عمليات في الأراضي الأميركية لمن يُوصفون بأعداء الولايات المتحدة أسهم بدوره في تفاقم الاعتلالات الصحية لعشرات من المعتقلين في غوانتانامو، ومنهم من قضى نحبه لضعف الرعاية الصحية في المعتقل سيئ السمعة.

أما الذين صمدوا بدنياً، فظلَّت محاكمتهم أمراً مشكوكاً فيه، انطلاقاً من أن الأدلة التي انتزعت عن طريق التعذيب لا تُعد دليلاً كافياً لإثبات الاتهام، فضلاً عن أسباب أخرى إجرائية تسببت في تأخر عقد ما يُعرف بجلسات الاستماع الأولية التي يتم فيها نوع من التحقيق المباشر بواسطة قاضي المحكمة العسكرية، وتكون بمثابة إشهار الأدلة وإثبات الاتهام أو جزء منه، مما ييسر إصدار الحكم المناسب لحجم الجرم. وهنا تتجسَّد إشكالية العدالة الأميركية ومدى مصداقيتها بالنسبة لهذا النوع من الجرائم الإرهابية.

فمن جانب تظل الأسر التي فقدت عزيزاً لديها من جراء الفعل الإرهابي بحاجة إلى استعادة التوازن النفسي عبر مجريات المحاكمة وصدور أحكام نهائية تُشفي الغليل، ومن ناحية أخرى فإنَّ استمرار الاعتقال في ظل بيئة إنسانية شبه معدومة لسنوات طويلة، دون حسم بارتكاب الجريمة أو جزء منها، يمثل عقاباً بلا سند قانوني، ومن المنظورين معاً تظل المعاناة سائدة للطرفين، وتستمر الشكوك حول مصداقية مثل هذه المحاكمات التي تتم خارج الأراضي الأميركية، حتى مع كونها تخضع للإجراءات القانونية المعتمدة في الجيش الأميركي.

هذا البعد القانوني المُعلق لزمن غير محدد يجعل من هجمات الحادي عشر من سبتمبر جرحاً غائراً لآلاف من ذوي الضحايا، وبقعة سوداء في هيكل العدالة الأميركية ككل. هذان البعدان ربما يفسران محاولة المدعين العامين ومسؤولة كبيرة في البنتاغون، التي جرت طوال عام ونصف العام، لإنهاء المحاكمة من خلال ما يُعرف بالاعتراف بالذنب السابق عن المحاكمة، مقابل أحكام مخففة. وهو الأمر الذى تراجع عنه وزير الدفاع. وهنا يبدو أمر غير مفهوم إلى حد كبير، فتحركات مسؤولة البنتاغون والمدعين العامين في أمر معقد كهذا لا يمكن تصورها باعتبارها تحركات فردية ذات طابع سري لا يعلم عنها وزير الدفاع شيئاً، ما يثير تساؤلات حول دوافع وزير الدفاع في إلغاء خطوة كانت كفيلة بإنهاء معاناة الكثيرين، بما في ذلك القائمون على المحاكمة أنفسهم.

من اليسير الانتهاء إلى أن رفض بعض ذوي الضحايا لمثل هذا الاتفاق الذى لا يتضمن حكماً بالإعدام كان هو السبب في تراجع وزير الدفاع، أو اعتراض بعض رجال الكونغرس، ومن ثم آثر وزير الدفاع إغلاق باب الجدل، لا سيما في وقت تزداد فيه حدة المزيدات الانتخابية، ومن ثم العودة إلى نقطة الصفر، وترك الأمور على حالها. أو بمعنى آخر ترك الزمن يفعل فعله المحتوم ولو بعد حين.