لماذا "أهدى" بوتين بايدن صفقة تبادل السجناء؟
"من أجلِكَ، سأفعل ذلك". بحسب شبكة "بلومبرغ"، كان هذا ما قاله المستشار الألماني أولاف شولتس للرئيس الأميركي جو بايدن قبل أشهر. حصل ذلك حين طلب بايدن من شولتس المساهمة في الإفراج عن المدان الروسي بالسجن المؤبد فاديم كراسيكوف لإنجاح ما سيتبين لاحقاً أنها أكبر عملية تبادل للسجناء بين روسيا والغرب منذ الحرب الباردة. تمت إدانة كراسيكوف، عنصر سابق في "جهاز الأمن الفدرالي"، باغتيال قيادي شيشاني سابق على الأراضي الألمانية قبل خمسة أعوام.
حظي بايدن باحترام وتقدير حلفائه بعدما قادهم نحو بر الأمان، أو يكاد، عقب الغزو الروسي لأوكرانيا. كان الاحترام واضحاً في دول أخرى أيضاً. قبل ساعة من إعلان تخليه عن الترشح إلى ولاية ثانية، وهي إشارة إلى مدى حماسته لإنجاز الصفقة، اتصل الرئيس الأميركي برئيس الوزراء السلوفيني لإصدار عفو عن جاسوسَين روسيين.
تم إطلاق سراح محتجزين من سجون سبع دول هي الولايات المتحدة وألمانيا وبولندا وسلوفينيا والنرويج وروسيا وبيلاروسيا. تضمنت العملية الإفراج عن الجندي السابق في مشاة البحرية بول ويلان الذي سجنته روسيا لأكثر من 5 أعوام بتهمة تجسس وصفتها واشنطن بالزائفة، والصحافي الروسي-البريطاني فلاديمير كارا مورزا الذي عارض غزو أوكرانيا، والصحافي في "وول ستريت جورنال" إيفان غيرشكوفيتش الذي اعتقلته روسيا بتهمة التجسس. كما كانت الحال بالنسبة إلى ويلان، رفضت واشنطن التهمة الموجهة إلى غيرشكوفيتش. في المحصلة، أفرجت روسيا عن 16 سجيناً غربياً، والغرب عن 8 سجناء روس يتهمهم أيضاً بالتجسس وتقويض الأمن وتجارة الأسلحة.
"سيفعل ذلك من أجلي فقط!"
يمكن تفسير اهتمام شولتس والحلفاء الغربيين بإرضاء بايدن من زاوية أخرى أيضاً: منح الرئيس الأميركي كل ما يلزم من نقاط إضافية للفوز بولاية ثانية. حصل بايدن على هذه النقاط ولو لم يعد هو نفسه مرشحاً إلى الانتخابات الرئاسية. سيجيّر هذا المكسب الآن إلى نائبته كامالا هاريس التي يبدو أنها تضيق الخناق على منافسها المرشح الجمهوري دونالد ترامب. وبالحديث عن ترامب، كان للأخير عدد من التصريحات السابقة التي تقول إنه سيتمكن من المساهمة في الإفراج عن غيرشكوفيتش بمجرد أن يصل مجدداً إلى البيت الأبيض.
كانت المحطة الأبرز لتلك التصريحات خلال المناظرة الرئاسية الأولى في حزيران (يونيو) الماضي حين قال: "سأخرجه (من السجن) بسرعة كبيرة، بمجرد أن أستلم المنصب، قبل أن أستلم المنصب". وتابع: "بمجرد أن أفوز بالانتخابات، سأخرج ذلك المراسل".
وفي أحد منشوراته على موقع "تروث سوشل"،كتب ترامب: "فلاديمير بوتين، رئيس روسيا، سيفعل ذلك من أجلي، لكن ليس من أجل أي أحد آخر". وأضاف بأحرف كبيرة: "لن ندفع أي شيء!".
عودة إلى السؤال
حمل منشور ترامب دعوة مبطنة للرئيس الروسي كي لا يتعاون مع نظيره الأميركي الحالي في هذا الملف. لكن في ما يمكن أن يشكل صدمة للمرشح الجمهوري، تعاون بوتين في نهاية المطاف مع بايدن في لحظة حرجة، حارماً ترامب من شعار كبير لحملته إضافة إلى منح خصمه هدية خلال المئة يوم التي تسبق الانتخابات. كان غضب ترامب واضحاً حين تساءل عما إذا كان مفاوضو بايدن دفعوا الأموال للروس قائلاً إن الصفقة مثلت "سابقة سيئة للغاية". ما من دليل في التقارير الغربية على أن هذه الصفقة تضمنت دفع أموال.
(فلاديمير كارا مورزا - أب)
في وقت يتّهم الديموقراطيون ترامب بمحاباة الرئيس الروسي والأخير بمساهمة كبيرة في إيصال ترامب إلى الرئاسة سنة 2016، يثار تساؤل عن سبب استعجال بوتين لعقد الصفقة في هذا التوقيت. يصبح هذا التساؤل موضع إلحاح أكبر مع كل الحديث عن أن ترامب "سيتخلى" عن أوكرانيا وربما أيضاً عن حلف شمال الأطلسي، في وقت يساهم دعم إدارة بايدن لكييف باستنزاف القوات الروسية إلى حد كبير. ثمة أكثر من طريقة لقراءة الصفقة.
ما فكّر وما لم يفكر به
يحب المحللون عادة ربط الصفقات الكبرى باستغلال القوى المعنية لحظات داخلية حرجة لدى الخصوم لاستثمارها باتجاه أو بآخر. هذا الأمر صحيح في بعض الأحيان فقط. ربما لم يكن الرئيس الروسي يعير أي اهتمام بكيفية انعكاس هذه الصفقة على مسار الانتخابات الأميركية. منذ فترة طويلة، أبدى بوتين اهتمامه باستعادة مواطنه كراسيكوف الذي سبق أن وصفه بـ "الوطني". بعدما أدرك الغرب–ربما بعد أشهر قليلةمن تاريخ تبادل لاعبة كرة السلة الأميركية بريتني غرينر وتاجر الأسلحة الروسي فيكتور بوت في كانون الأول 2022 – أنه لا يمكن استعادة سائر السجناء بدون الإفراج عن كراسيكوف، عمد الغرب إلى تجديد المفاوضات. أخيراً، وبعد نضوج الصفقة، تم إنجازها من دون تأخير ومن دون النظر إلى عوامل أخرى.
(بوتين مستقبلاً كراسيكوف قرب موسكو - أب)
السماء تتلبد بالغيوم
ربما برز ما دفع الكرملين إلى التعجيل بالصفقة حتى ولو كان ذلك سيفيد إدارة هاريس، بل بشكل محتمل، لأن ذلك سيفيدها بالفعل. يرى الدكتور كارنر، أستاذ مساعد في "معهد بيليكي" في وارسو، أنه بعد تعديل التذكرة الديموقراطية وارتفاع حظوظ هاريس بالفوز بولاية ثانية، مع ما يعنيه ذلك من "تجمع للغيوم الاقتصادية والاستراتيجية (الداكنة) بالنسبة إلى بوتين، إن الرغبة بكسب ود إدارة كامالا هاريس المقبلة قد تكون السبب الوحيد للاتفاق على (صفقة ذات) عائد سيئ" بالنسبة إلى ترامب.
اللافت، إنّ بوتين قبل بالصفقة أواسط تموز، أي في خضم الحملة الديموقراطية الضاغطة لدفع بايدن إلى التخلي عن ترشحه الرئاسي. هذا يعني أن بوتين لم يكن عالماً بانقلاب الأجواء في واشنطن كي يكسب وداً معيناً، لكنه في الوقت نفسه، لم يمانع إعطاء الرئيس الأميركي المتعثر متنفساً لحملته.
يمكن أيضاً طرح افتراض آخر مفاده أن قبول بوتين بتعجيل التفاوض مع بايدن في هذه المرحلة يخفف من الضغوط الإعلامية التي تتهم ترامب بأنه "يخضع للتأثير الروسي" بل ويمنحه المبادرة لقول إن إدارة بايدن قبلت بالصفقة مع عدوها، في هذا التوقيت، للاستفادة الانتخابية. وقد يكون هناك ما يدعم هذا الافتراض، إذ أعلن(فبراير) من هذه السنة أن بلاده تفضل فوز بايدن لأنه يمكن التنبؤ بتصرفاته ولأنه أكثر خبرة. في نهاية المطاف، ربما استفاد بوتين من الصفقة بشكل ثلاثي: أولاً مع استعادة السجناء الروس، ثانياً عبر كسب ود إدارة مستقبلية لهاريس، ثالثاً عبر زيادة الشرخ السياسي الأميركي في هذه المرحلة من الانتخابات.
لكن ثمة مشكلة أخيرة
على الأرجح، وإذا كان الماضي مقدمة لقراءة رد فعل ترامب على التصرفات التي يعتبرها موجهة ضده شخصياً، فسينظر المرشح الجمهوري إلى الصفقة بوصفها إساءة من الرئيس الروسي إلى طموحاته الرئاسية. فهل سيرى ترامب في أوكرانيا الساحة الأساسية لرد هذه "الصفعة" في حال فاز بالانتخابات؟
بما أن ترامب "أقل قابلية للتنبؤ بسلوكه"، على حد توصيف بوتين، سيكون من غير الآمن بالنسبة إلى الكرملين إسقاط هذه الفرضية.