فكرة لعلها لم تخطر على بالنا
هي فكرة ظهرت لأوروبا إبان الثورة الصناعية، ثم اتضحت تماماً إثر الحروب الأهلية والإقليمية والعالمية التي جرت فيها. وقد تجلت الفكرة أكثر ما تجلت في ألمانيا بعد الحرب، ومن ذلك سرعة نهوض ألمانيا السريع بعد الحربين العالميتين.
وفي تفسير ذلك تبين أن عدم اعتماد المدن الألمانية الكلي على العاصمة، وإنما على العلاقات بينها، جعلها تصمد بعد الحرب وتنهض، حتى وإن كانت العاصمة محتلة مع الحلفاء والاتحاد السوفيتي، كما كان الأمر عليه لنحو خمسين عاماً بعد الحرب العالمية الثانية، فلا تقل لي إن مشروع مارشال الأميركي هو السبب الوحيد في نهضة ألمانيا السريعة. أما في فرنسا وفي دول كثيرة غيرها فإنه يكفي سقوط العاصمة بيد العدو أو انهيارها بزلزال مثلاً لانهيار الدولة أو استسلامها.
لا يتعلق الموضوع بالإدارة المركزية أو اللامركزية. إنه يتعلق بالعقلية، فقد تكون الإدارة لامركزية، ولكن عقلية المسؤول مركزية. وقد يكون الأمر بالعكس. ولكن اللامركزية تساعد على بروز الفكرة، فلا تركز السلطات جميع شؤون الحياة وبخاصة الاقتصادية في العاصمة.
صارت الدول الديمقراطية الحديثة تتعلّم من النموذج الألماني في التنمية الاقتصادية، وبحيث لا يقتصر التفاعل بين جميع مدن الدولة (وقراها بالطبع) بينها وبين العاصمة، بل بينها وأكثر منه، دون الحاجة او الاضطرار للمرور إليه عبر العاصمة.
إن لهذه الفكرة معنى (نظري) وهو أنه لا يجوز تركيز جميع النشاطات وبخاصة الاقتصادية في العاصمة، وجعل البنية التحتية مرتبة على هذا الأساس. إن التقاطع هو الأفضل، فعندئذ تصبح الدولة شديدة التماسك، فلا تنهار الدولة أو تسقط عندما تنهار العاصمة أو تسقط، وكأن العاصمة تمثل حجر سنمّار وقد سحب من السد فانهار. وفي الطريق إلى هذه الفكرة يجب أن تقوم الحكومات بطرح بعض الأسئلة على نفسها مثل: هل هناك أشياء أو أمور معينة يجب أن تبقى في العاصمة؟ ما تأثير ذلك على البقاء؟ أي هل اتخاذ القرارات الإدارية والتنموية لصالح العاصمة أفضل من توزيعها على بقية المدن أو المحافظات؟ لعل تركيز النشاط في العاصمة يمنع ظهور المبادرات المحلية من الظهور. إن ترتيب البنية التحتية وبخاصة الطرق نحو العاصمة يضعف الاتصال والتواصل بين بقية مدن الدولة أو محافظاتها، كما أنه يضعف نموها وتطورها، ويمنع ظهور قيادات محلية لازمة كمصدر لقيادات الدولة.
لكن هذه الفكرة لا تلاقي قبولاً أو ارتياحاً في الشرق العربي، لأن الناس فيه تعودوا تاريخياً على الاعتماد على العاصمة في كل شيء. إنهم يفضلون أن تكون العاصمة مرجعهم، لكن توزيع مراكز الإنتاج والخدمات والاتصال والتواصل في بقية البلاد يجعلهم في الأخيرة يألفون ذلك ويتمسكون به، لأنه أسرع وأقل كلفة.
نحن في الأردن العزيز من النوع الذي يفضل الاتصال والتواصل مع العاصمة على غيرها. ألا ترى كيف أن كل الباصات والسيارات تصب فيها في الصباح ناقلة الموظفين إليها من مختلف المحافظات، ثم تخرج منها في المساء تنقلهم إلى بلداتهم. هل رأيت اتصالاً أو تواصلاً إنتاجياً مباشراً بين العقبة وإربد مثلاً، أو بينها وبين السلط والزرقاء، أو بين الكرك والمفرق.. إن كلاً منها مستقل عن الأخرى فلا تحتاج إليه، ولكنها تابعة للعاصمة حيث كل شيء.
لقد دعوت في كلمة لي مرة في مجلس الأعيان سنة 1990 إلى تبني ما سماه أحدهم بالاقتصاد السيني (Fxonomics)، ويعني ضرورة قيام الحكومة في الدولة الواحدة بإعداد سيناريوهات لمواجهة الاحتمالات الخطرة أو المدمرة التي يمكن أن تقع مثل زلزال، أو قحط ، أو انقطاع الطاقة، وهكذا وبحيث تتعامل الدولة معه بسرعة وبنجاح إذا وقع لأن الحل جاهز. لا يجوز انتظار الصدمة لنفكر ونتعلم كالإنسان البدائي، يجب أن نتعلم بالاستباقية، فالغد يصنع أو يبدأ اليوم.