قرأنا في الأيام القليلة
الفائتة، جملة إطراءات للتحولات "النوعية” في خطاب الإخوان المسلمين في
سوريا..بعضهم وصل به الحماس حد وصفها بـ”الإختراق التاريخي” في خطاب
الجماعة، ليس على مستوى سوريا فحسب، بل وعلى مستوى المنطقة برمتها....لقد
كنّا حقاً أمام "حفل استقبال” واسع النطاق لـوثيقة "عهد وميثاق مع سوريا”،
ذات النقاط العشرة، التي أصدرتها الجماعة، عشية مؤتمر المعارضة الموسع في
اسطنبول، ومؤتمر "أصدقاء سوريا” اللذين لا تفصل بينهما سوى 48 ساعة فقط.
أن
تصدر هذه "الحفاوة” البالغة حد التمجيد، عن الإخوان وأصدقائهم وفروعهم،
فهذا أمر مفهوم تماماً ومتوقع في كل الأحوال...وأن يصدر الترحيب بالوثيقة
"النوعية” عن جهات غير إخوانية، وغير إسلامية، راهنت على "تحوّل” الإخوان
نحو ضفاف "خطاب إسلامي مدني ديمقراطي” فهذا أمرٌ مفهوم كذلك، ولقد كنّا من
بين قلائل ممن وضعوا رهانهم على هذا الحصان، من دون مبالغة أو تطيّر...لكن
أن يصدر مثل هذا الخطاب عن "خصوم” للإخوان، سابقين ولاحقين، فهذا أمرٌ
يحتاج للحظة تأمل في "الأسباب الموجبة”، ووقفة تحليل للذرائع والإستخدامات
والتوظيفات، أو بالأحرى في "الأجندة الخفيّة” لـ”حفلة الترحيب” الناضحة
بالمبالغة.
بعض "دول البترودلار”، تخوض غمار حرب شعواء ضد التيار
الإخواني، لم تكن تصريحات الشيخ القطري بالتجنس، المصري بالجنسية، سوى آخر
فصولها وتداعياتها...المفارقة أن صحف هذه الدول المهاجرة إلى لندن، ...لم
تتوقف عن كيل المديح والثناء على "وثيقة النقاط العشر”...هم يحتفون بإخوان
سوريا من جهة، ويتهددون "إخوانهم” بالويل والثبور وعظائم الأمر من جهة
ثانية...بل ويعتبرون "إخوانهم” رأس فتنة ومشروع مؤامرة تستوجب الاتهام
بالعمالة و”الطابور الخامس” وإستصدار مذكرات الجلب والتوقيف عبر الإنتربول.
"مدنية”
إخوان سوريا و”ديمقراطيتهم”، عقولهم المتفحتة كقلوبهم...هي أفضل دعاية
لمواجهة "النظام الدموي الشمولي الديكتاتوري” في دمشق....لا بأس من تمجيد
إخوان سوريا، إن كان ذلك ينفع في محاصرة نظامها وتسريع رحيله...لا بأس من
رفع إخوان سوريا إلى السماء، إن كان هذا هو الطريق الأقصر لدفن نظام دمشق
تحت الأرض...فكل شيئ يهون طالما أن المطلوب هو "رأس المملوك بشار”...ثم أن
ما يقال اليوم في مديح هؤلاء سيقال مثله، في هجائهم غداً، إن تقلبت صنوف
الدهر...الغاية تبرر الوسيلة، حتى وإن كانت الوسيلة متمثلة في "تجرّع الكأس
المُرة” وإغداق الثناء على البيانوني والشقفة.
في الأردن، قيل ما
قيل في تمجيد إخوان سوريا، ودائما في سياق المقارنة مع إخوان
الأردن....الخير كله، المدنية والتحضر والانفتاح والتفتح، كلها قيم تسير في
ركاب "الإخوان السوريين”...أما إخوان الأردن، فهم فقهاء ظلام وسكان كهوف،
عقولهم متحجرة، ووعيهم توقف عند حدود النشأ قبل سبعين عاماً...إخوان سوريا
مؤهلون فكرياً وبرامجياً لتسنم مقاليد السلطة في بلادهم، أما إخوان الأردن،
فكثير عليهم دور "أقلية وازنة” في البرلمان.
إذن، ليست المسألة
ترحيبا حقيقيا بتحوّلات إخوان سوريا، بل هي تسوية حسابات مع إخوان الأردن،
تماماً مثلما يفعل الإعلام النفطي المهاجر، وإن اختلفت الأجندات والأولويات
والأهداف...لا حباً بعلي بل كرهاً لمعاوية....هذا هو بالضبط معنى ما يذهب
إليه، بعض أشد المتحمسين والمروجين لوثيقة "العهد والميثاق مع سوريا”.
إن
القراءة الموضوعية لما ذهب إليه إخوان سوريا، تدفع على التفاؤل حقاً...بل
وتؤكد صحة الرهان على تيار "الإسلام المدني الديمقراطي” الممتد من تركيا
إلى المغرب، مروراً بتونس وتيارات ناشطة في عديد من الفروع الإخوانية في
العديد من الدول العربية....هذا كان رهاننا منذ سنوات، أي منذ أن قدم إخوان
الأردن ومصر وسوريا ولبنان وثاءقهم وبرامجهم الإصلاحية في أوساط العقد
الفائت، والتي تضمنت مواقف رؤى، لم يرغب كثيرون في رؤيتها وقراءتها.
مع
أننا ما زلنا نعتقد، بأن ثمة مساحات رمادية، ما زالت واسعة في خطاب هذه
الحركات...وما زلنا ندعو ندعو لتنشيط الحوار الداخلي في صفوفها، وتعميق
حواراتها مع التيارات السياسية والفكرية العربية الأخرى...هذا ما دعونا
إليه في 2005، وهذا ما تضمنته سلسلة من الكتب والدراسات، التي كان لنا شرف
الإسهام في إخراجها إلى دائرة الضوء.
"طينة إخوان سوريا من عجينة
إخوان الأردن ومصر والعراق وتونس”...الفوارق بين هذه الفروع "درجيّة”، أو
"كمية” بالأحرى، ليست نوعية أبداً...تمليها شروط الزمان والمكان والنظام
واتجاهات هبوب الريح التحررية المنفتحة أو السلفية المتشددة..ومن يرحب
بتقدم "إخوان سوريا” عليه أن يقرأ من باب أولى، النقلة التي أصابت الحركة
الإسلامية الأردنية، والتي قلنا ذات يوم، قبل سنوات طوال، أنها السبب في
استهدافهم، أي أنهم يدفعون ثمن "اعتدالهم” وليس ثمن "تطرفهم”...لكن أحداً
ما كان ليصغي لكل تلك الأطروحات والفرضيات.
أما التعامل مع "إخوان
الجوار” بوصفهم الخير كله، وإخوان البلد، الأردن أو الخليج، بوصفهم الشر
كله، فهذا يذكرني بالمثل الدارج: "يسعدهم ويبعدهم”...لكن من "سوء طالع” بعض
من يتصدون لإخوان الداخل، ويرحبون بإخوان الخارج، أنهم سيستفيقون ذات يوم،
إن لم يكونوا قد استفاقوا حتى الآن، على الحقيقة التي لا تخطئها العين،
وهي أنهم سيضطرون عاجلاً أم آجلاً، للإعتراف بحقيقة أن أحداً لم يعد
بمقدوره أن يبعد أحدا أو يستثنيه، وأن "الدور القيادي” للإخوان في بلدانهم،
مرشح للتصاعد والاستمرار، ربما لعقد آخر قادم.