ماركيز يتقلّب في قبره



عندما يوصي كاتبٌ بعدم نشر مخطوطٍ له فهذا معناه أنه غير مقتنع به، أو أنه يرى أنه ما زال يحتاج تطويراً وإنضاجاً وتعديلاً، أو أنه يعتبره أدنى من المستوى وغير قابل للإنقاذ. صحيح؟ كيف يحقّ لمن ورثوا نتاجَه أن يُقرّروا، بعد رحيله، أن بلى هو عملٌ صالحٌ للنشر، فيتفقون مع دار نشر بإصداره، مع مُقدّمة طويلة تُبرّر قرارهم ذاك، وعدم احترامهم إرادة المرحوم؟

هذا ما حصل لأحد أكثر كتّاب القرن العشرين أهمّية على الإطلاق، الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز، والد الواقعية السحرية، الحاصل على "نوبل للآداب"، والمتوفّى منذ عشر سنوات (2014). ومع أني كنتُ قد وعدتُ نفسي بعدم قراءة الرواية، التي تحمل في ترجمتها الفرنسية عنوان "سنلتقي في أغسطس"، نكاية في ابنَيه، اللذين لا أرى أنّهما أقدما على فعلتهما هذه إلّا بغرض تحقيق سبق تجاري رابح (أعمال ماركيز وترجماتها ما زالت تُحقّق أعلى المبيعات)، فقد وقعتُ مصادفةً على نسخة من الكتاب في مكتبة إحدى الصديقات، فلم أقاوم إغراء تقليب صفحاته، ثم استعارته، لأسمح لنفسي بكتابة ما ورد أعلاه.

يُبرّر الولدان فعلتهما بأنّهما أعادا قراءة المخطوطة بعد مرور عشر سنوات على اكتشافها الأول، فوجداها مكتوبةً بشكل جيّد وممتعة، فقرّرا ألا يحرما القرّاء من الاطلاع عليها. "هذا الكتاب ليس جيّداً. يجب التخلّص منه"، هكذا حكم ماركيز على نصّه الأخير الذي باشر كتابته عام 1999، وهو العام الذي يُمثّل، وفقاً لمن كانوا حوله، بداية اختلال ذاكرته، التي لطالما اعتبرها "مادّته الخام"، و "أداة عمله"، على أن يكون هذا جزءاً من كتابٍ يتألّف من خمس قصص مُستقلّة تدور حول شخصية آنا ماجدالينا باخ، وفقاً للصحافية الإسبانية روزا مورا، وتكون ذات قاسم مشترك هو الحُبّ لكبار السن.

القصة أنّه في 16 أغسطس/ آب من كلّ عام، تقوم آنّا بالرحلة نفسها. تستقلّ سيارة الأجرة نفسها، تتوقّف عند بائع الزهور ذاته، وتحت أشعة الشمس الحارقة، في المقبرة المعدمة نفسها، تأتي لوضع باقة جديدة من الزنبق على قبر والدتها. آنا ماجدالينا باخ تبلغ 46 عاماً، ولديها ولدان ناجحان، وزوجٌ قائدُ أوركسترا، وحياة طبيعية هانئة ومسالمة. خلال إحدى رحلاتها تلك، ستلتقي برجلٍ يدعوها إلى تناول كأس، وينتهيان معاً في غرفتها. لكنّها ستفاجأ صباحاً بمغادرته الغرفة، بعد أن ترك لها ورقة بقيمة 20 دولارا بين صفحتين من كتابها.

"سنلتقي في أغسطس"، وصفٌ لشخصية امرأة تقع أسيرة رغباتها وهي تُودّع شبابها على عتبة خمسينياتها، وتخون زوجها للمرة الأولى، ومع أخذها القرار أصبح الأمر تقليداً سنوياً تتبعه مع كلّ زيارة لقبر والدتها. في هذه الرواية القصيرة جدّاً، يضاعف ماركيز قصص اللقاءات، والمشاهد المثيرة، ويكتب عن مفاعيل هذه الصحوة الجنسية على الحياة اليومية والحميمة لبطلته.

لكن، بعد قراءة الرواية يبقى السؤال: هل كان قرار نشر هذا العمل مُحقّا أو ضرورياً، رغما عن إرادة صاحبه؟ الجواب الذي يأتي تلقائياً: لا. فهذه رواية، وإن كانت موضوعاتها من تلك التي شكّلت أعمال ماركيز بشكل عام، فهي تبقى أدبياً دون مستوى إبداع صاحبها بكثير، تستند إلى حبكة تتقدّم بشكل خطّي، وتوليفاتٍ أقلّ من عادية، وصور مسطّحة ونمطية في أغلب الأحيان. قطعاً، كان ماركيز واعياً ومنصفاً في تقييمه عمله وفي قراره "يجب التخلّص منه"، برغم النسيان الذي كان قد بدأ يضرب ذاكرته. أمّا ولداه اللذان قدّما "سنلتقي في أغسطس"، باعتبارها "محاولته الأخيرة لمواصلة إبداعه رغم كلّ ما واجه من صعوبات"، فإنّ فعلتهما لن تُنقص من قيمة الكاتب الكولومبي، الذي اكتسب، خلال أكثر من نصف قرن، حُبّ ملايين القرّاء وتقديرهم.