هل ينهار الدولار الأميركي؟... إجابة واقعية
يعد الدولار رمز قوة الولايات المتحدة وأحد أسبابها، فقوته محصلة عوامل العنفوان الأميركي، وهي تعزز في الوقت نفسه عناصر القوة الأميركية، وتأتي قوة العملة الخضراء من عوامل متعددة كالتالي:
1- العوامل الاقتصادية
- حجم الثروات والاحتياطات الطبيعية والنقدية والأصول المملوكة أميركيا.
- القدرة الإنتاجية والقدرة التصديرية ووضع الميزان التجاري في الولايات المتحدة.
- جاذبية الأسواق المالية الأميركية وحجمها وعمقها وانفتاحها وشفافيتها وإتاحة المعلومات.
- الهيمنة الأميركية على النظام المالي والتجارة العالمية.
- ارتباط السلع الأكثر تداولا في العالم بالدولار الأميركي، مثل سلعة النفط.
- استدامة وقوة الطلب على الدولار.
- سهولة شراء وبيع الدولار مقابل عملات أخرى.
- الربط بالدولار، إذ تربط أكثر من 60 دولة في العالم عملاتها المحلية بالعملة الأميركية.
2- العوامل السياسية والجيوسياسية
- مدى كفاءة الإدارة الأميركية، والتماسك المجتمعي الداخلي.
- مستوى الهيمنة السياسية للولايات المتحدة ممثلة بقدرتها على فرض أجندات سياستها الخارجية على العالم.
- القوة العسكرية والهيمنة الجيوسياسية.
- تماسك النظام العالمي كما تشكّل عقب انهيار المعسكر الشرقي في تسعينيات القرن الماضي.
3- قوة النموذج
- تفوق النموذج الأميركي الاقتصادي والسياسي والحضاري والثقافي.
- الانسجام بين النموذج والممارسة.
وترتبط هذه العوامل بعلاقة جدلية، ففي حين تعتبر العوامل الاقتصادية أساسا للعوامل السياسية والجيوسياسية فإن قوة الأخيرة تؤثر إيجابا على الأولى، وهي معا تحدد قوة الدولار.
وهذه العلاقة أيضا ليست باتجاه واحد، فتراجع قوة الدولار يؤثر على العوامل الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية سلبا، والعكس صحيح.
لكن هذه الحلقة من الدعم المتبادل بطريقة جدلية بدأت بالتراجع منذ عقدين، مع تراجع مجمل العوامل التي على أساسها يكتسب الدولار قوته، وفق التالي:
أولا: العوامل الداخلية
تعاني الولايات المتحدة من أزمات داخلية متعددة ومتفاقمة تشير بمجملها إلى غياب العدالة المجتمعية وتآكل النموذج الديمقراطي.
-
أزمة التضخم
حيث تستمر أزمة التضخم العصية بجانب ارتفاع معدل الفقر الوطني في الحد من قدرة المنتج الأميركي على المنافسة، وبالتالي تراجع الصادرات وارتفاع الواردات الأجنبية، مما ينتج عنه اختلال مستمر ومتراكم في الميزان التجاري.
هذا الوضع يؤدي إلى انخفاض الإيرادات وصعوبة أمام الوفاء بالالتزامات المالية والائتمانية الخارجية والداخلية، كما يؤدي إلى استمرار ارتفاع تكاليف السكن، وأثر ذلك على أعداد المشردين في الولايات المتحدة التي بلغت سقوفا قياسية للعام 2023 بعد أن سجلت نحو 650 ألف مشرد، 28% منهم عائلات معها أبناء.
-
التفاوت الاقتصادي
يشير تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش إلى أنه رغم بعض الإصلاحات الاقتصادية التي نفذتها إدارةجو بايدنفإن الصلاحيات الموكلة لكل ولاية على حدة لسن التشريعات والقوانين المحلية حدّت من أثر الإصلاحات، مما يشير إلى أزمة في البنية السياسية الأميركية تلقي بظلالها على الاقتصاد.
ويستمر تفاقم التفاوت الاقتصادي والفجوة العرقية في الثروة، فكل دولار في ثروة العائلات البيضاء يقابله 24 سنتا للعائلات السوداء و23 سنتا للعائلات الإسبانية، وتظهر الفروق العرقية في الحصول على حد الكفاية من الصحة والتغذية والتعليم والتوظيف والسكن وتظهر تقريبا في كل نقطة اتصال مع نظام العدالة، وتؤدي إلى تعريض ملايين النساء من ذوات البشرة الملونة للخطر، خاصة مع تنامي القوانين التي تحد من الرعاية الإنجابية.
ويسجل مؤشر انعدام المساواة في الدخل سقوقف عالية مقارنة بالدول الغنية الأخرى، فالعُشْر الأغنى من السكان يحصل على قرابة نصف إجمالي الدخل مقابل 13% للنصف الأفقر، والذي لا تزيد ملكيته الثروات الخاصة في البلاد على 1.5%.
-
زيادة معدلات الاحتجاز
والولايات المتحدة الأميركية هي الأولى في العالم من حيث معدلات الاحتجاز مع وجود نحو مليوني شخص محتجزين في السجون، بالإضافة إلى ملايين آخرين قيد الإفراج المشروط والمراقبة، مع نسبة مساجين من السود أعلى بكثير من نسبتهم من إجمالي السكان.
-
عمالة الأطفال
تتيح الإعفاءات المقرة في قوانين العمل الأميركية عمالة الأطفال بعمر 12 عاما في قطاع الزراعة (القطاع الأكثر تسببا لوفيات الأطفال العاملين)، وقد شهد العام 2023 زيادة حادة في انتهاكات عمالة الأطفال، وهم في أغلبهم من المهاجرين بدون مرافقين من أولياء أمورهم ويعملون في ظروف خطيرة واستغلالية، في حين يستمر ارتفاع معدل الوفيات بالجرعات الزائدة من المخدرات، إذ وصلت العام الماضي إلى مستوى قياسي جديد عند ما يزيد على 111 ألف وفاة، ناهيك عن وجود الفروق العرقية في وفيات الجرعات الزائدة.
-
ارتفاع حدة الاستقطاب
وترتفع مؤشرات تهديد الديمقراطية بشكل مستمر، إذ يواصل المشرعون حظر الكتب وإصدار قوانين تقيد النقاشات الحرة في الفصول الدراسية وحذف القصص الملهمة لمواطنين عاديين نجحوا في تنظيم أنفسهم لتعزيز حقوق الانسان، ويستمر الدعم العسكري للدول التي تنتهك حقوق الانسان.
وتتراجع مؤشرات التداول السلمي والسلس للسلطات كما حصل في 6 يناير/كانون الثاني 2021 حين اقتحمت مجموعات من مثيري الشغب مبنى الكابيتول الأميركي (مبنى الكونغرس) لدعم مخطط ترامب لقلب نتائج الانتخابات، وترتفع حدة الاستقطاب مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، خاصة مع تصريح ترامب بأن الدولة ستغرق في حمام دم في حال عدم انتخابه.
ثانيا: العوامل الخارجية
-
على المستوى الاقتصادي
تفقد الولايات المتحدة تدريجيا وعلى سنوات موقعها كقوة اقتصادية أولى في العالم لصالح الصين ومجموعة من الدول الأخرى، إذ تتراجع حصة مساهمة الإنتاج الأميركي في إجمالي الناتج العالمي وتتراجع قيمته مقارنة بإجمالي الناتج الصيني، ويترافق ذلك مع تراجع موقع الولايات المتحدة عالميا على مستوى الابتكار والاختراع.
وشهدت حصة الدولار من الاحتياطات الدولية تراجعا مستمرا لعقدين منذ أن بدأت الولايات المتحدة حربها المزعومة على الإرهاب وفرضها عقوبات اقتصادية ومالية على خلفية "الإرهاب"، وقد دفع توظيف الدولار كأداة عقابية العديد من الدول والكيانات إلى البحث عن بدائل للدولار بعد إدراكها أن اعتمادها العالي على الدولار يضعها وسياساتها رهينة للمصالح الأميركية.
ويمكن قراءة تراجع موقع الدولار كعملة عالمية من خلال ما يلي:
- نمو توجهات أوروبية على مستوى الدول وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي نحو تعزيز الاستقلال عن سياسات الولايات المتحدة الأميركية الخارجية وخفض الاعتماد على الدولار.
- نمو التوجه العالمي لعقد صفقات دولية غير مقومة بالدولار، مثل تنفيذ أول صفقة بين الصين والإمارات باليوان الصيني، وصفقات بين ماليزيا والهند، وتوقيع روسيا والهند صفقات نفطية بغير الدولار، واتفاق البرازيل والصين على التخلي عن الدولار، واتفاق روسيا والصين على تبادل النفط بالعملات المحلية.
- اقتراح رئيس الوزراء الماليزي تشكيل صندوق آسيوي للنقد بهدف خفض الاعتماد على الدولار.
- تعاظم قوة مجموعة(بريكس)ومستوى التعاون بين أعضائها، وخططها لإصدار عملة جديدة وتوسيع عضويتها.
- انفتاح السعودية على الانفكاك عن نموذج (البترودولار) والبدء ببيع النفط باليوان الصيني.
- تراجع في استخدام الدولار في أسواق العملة العالمية، ويؤكد ذلك تقرير صدر عن مؤسسة جي بي مورغان بنهاية أغسطس/آب من العام الماضي.
- هبوط مستمر لحصة الدولار في الاحتياطي العالمي على مدار عقدين بحسب بيانات صندوق النقد الدولي.
- نمو العملات الرقمية والتوجه العالمي نحوها، حيث إن 90% من البنوك المركزية في العالم تعمل على أو تناقش إصدار عملات رقمية.
-
على المستوى الجيوسياسي
تواجه هيمنة الولايات المتحدة تحديات جيوسياسية متزامنة على جبهات عدة، الجبهة مع روسيا في أوكرانيا، والجبهة مع الصين في تايوان ومنطقة الهادي الهندي، والجبهة في الوطن العربي والإقليم مع المقاومة الفلسطينية، وجبهات الإسناد واستمرار التهديد الإيراني المتصاعد للنفوذ الأميركي في المنطقة.
وفي القارة الأفريقية تتراجع الهيمنة الأميركية ومصالحها الإستراتيجية مع تنامي التوجهات الأفريقية للسيادة على الموارد والتخلص من تركة الاستعمار، ويبدو أن الهيمنة الأميركية تتخذ منحى متناقصا، مما يؤثر بشكل مباشر على قوة الدولار وموقعه كعملة عالمية.
-
على مستوى النظام العالمي
عقب الحرب العالمية الثانية ظهر نظام دولي تحكمه مؤسسات دولية وأنظمة وقوانين ساهمت بشكل كبير في تعزيز هيمنة الإمبريالية الأميركية وحلفائها، وبعد انهيار المعسكر الشرقي تفردت الولايات المتحدة بالهيمنة العالمية فيما عرف بنظام القطب الواحد، لكن هذا النظام الذي شكّل البيئة الحاضنة العالمية لتوسع وهيمنة الولايات المتحدة وبدفع من صعود قوى دولية وإقليمية جديدة بدأ بالتفكك لصالح تشكّل نظام جديد متعدد الأقطاب، مما يعني تراجع مستويات هيمنة الولايات المتحدة العالمية اقتصاديا وماليا وجيوسياسيا، ويهدد سطوة الولايات المتحدة في المؤسسات الدولية، وسيعمل تفكك النظام العالمي وبشكل مباشر على تراجع قوة الدولار.
-
على مستوى التوقعات العالمية
مع نمو وهيمنة الرأسمال المالي واقتصاديات البورصة والأوراق المالية على حساب الاقتصاديات الإنتاجية غدت التوقعات المستقبلية للمستثمرين واللاعبين الرئيسيين محددا أساسيا لمؤشرات الاقتصاد الآنية، وأخذا بالاعتبار العوامل الموصوفة أعلاه فإن توقعات اللاعبين الكبار تميل إلى افتراض تراجع أو انهيار قوة الدولار في المستقبل، مما يدفعهم إلى اتخاذ قرارات استثمارية آنية لا تراهن على قوة الدولار، وبالتالي يساهم توقع تراجع قوة الدولار مستقبلا في إضعاف قوته في الحاضر.
السيناريوهات الأكثر ترجيحا لانهيار الدولار
يستمر الصعود التدريجي المتراكم لمؤشرات تراجع قوة الدولار، وسيكون لعاملين رئيسيين دور حاسم في انهيار الدولار، أحدهما داخلي والآخر خارجي، علما بأن هذين العاملين يؤثر كل منهما على الآخر:
1- الخارجي: هزيمة واضحة في إحدى الجبهات الجيوسياسية الرئيسية.
2- تعثّر الولايات المتحدة في الوفاء بالتزاماتها المالية والائتمانية وأزمة رفع سقف الدين.
ووقّع الرئيس جو بايدن في ديسمبر/كانون الأول الماضي قانونا لرفع سقف الدين بقيمة 2.5 تريليون دولار، وبعد نحو شهر استنفدت وزارة الخزانة السقف الجديد، ولجأت إلى استنفاد الصلاحيات الاستثنائية للاقتراض تحت بند الطوارئ، وإذا لم يتم رفع سقف الدين من جديد فإن وزارة الخزانة ستصل نقطة التخلف عن السداد.
وتتوقع الدراسة أن يكون موعد أول تخلف عن السداد في فترة ما بين صيف وخريف 2024، وهذا التاريخ سيكون حاسما في تقهقر قوة الولايات المتحدة في مواجهة التحديات الجيوسياسية، وفي حال الذهاب إلى رفع سقف الدين سيؤدي ذلك إلى إنهاك الاقتصاد الأميركي ومراكمة معدلات المديونية العامة المرتفعة أصلا وتراجع معدلات الدخل والقوة الشرائية وارتفاع معدل الفقر والبطالة.
وتظهر أزمة الدولار في تزامن مع استصعاء وفاء الولايات المتحدة الأميركية بالتزاماتها الإمبراطورية الخارجية تجاه حلفائها وعلى الجبهات مع أعدائها.