في مواجهة مخاطر مرحلة جديدة يعيد التاريخ فيها نفسه

إذا لم تُحَل القضايا الأساسية بكل الوطن والمتعلقة أولاً وأخيرا باستمرار الاحتلال هنا وهناك، وبعدم وقف النار بشكل نهائي، فإن الوضع في الضفة الغربية، سيُبقي على استمرار السيطرة الإسرائيلية الأمنية على أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، ما قد يؤدي إلى استمرار أشكال من المقاومة المشروعة ضد الاحتلال، وتصاعد جرائم المستوطنين والاحتلال، خاصة بعد مقترحات سموترتش حول المناطق (ب) وقرارات توسيع الاستيطان، وحجم مصادرة الأراضي الأوسع منذ ٣٠ عاماً، وتنفيذ سياسات الضم بالأمر الواقع.


وفي حال نجاح الولايات المتحدة وإسرائيل في دفع حماس إلى شكلها الجديد نحو هذا التغيير وتنفيذ الاحتمال الافتراضي المذكور، فإن غزة قد تصبح كياناً شبه مستقل، وهذا ما يحقق لدولة الاحتلال الهروب إلى الامام والتملص من كافة الاستحقاقات الدولية، كما أن ذلك قد يتفق مع رؤية ورغبة حركة الإخوان المسلمين العالمية التي سعت لذلك منذ بدايات إقامة السلطة الوطنية، وانسحاب الاحتلال من غزة، وبتنفيذ الانقلاب لاحقا، ومساهمتها في الخريف العربي بتوافق مع الأمريكان. لكن تنفيذ ذلك السيناريو يتطلب ترتيبات اقتصادية وأمنية وسياسية معقدة، بما في ذلك المعابر، والموارد، والعلاقات الدولية ما يتطلب تنسيقا مستمرا مع دولة الاحتلال، كما هو حاصل في الجزء الشمالي من الوطن.

سيناريو خطر يعيق إقامة دولة فلسيطينية متواصلة

ان هذا السيناريو الخطر في حال تنفيذه قد يؤدي إلى تعزيز الفصل بين الضفة الغربية وغزة، ما يعقد أية جهود مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة ومتواصلة جغرافيا وخالية من الاستيطان وديمقراطية، خاصة في ظل غياب آليات دولية لتنفيذ ذلك، رغم الحديث اللفظي عن حل الدولتين الذي يتم دون الاعتماد على خرائط رسمية دولية، فالخريطة الدولية الوحيدة لحل الدولتين تقوم على أساس قرار التقسيم رقم ١٨١ لسنة ١٩٤٧، إضافة إلى معيقات فرضتها تغير الوقائع على الأرض من خلال تسارع الاستيطان غير المسبوق والضم.


وما لم تتغير الحالة الإقليمية والدولية الراهنة وفي المجتمعات اليهودية في إسرائيل التي تعيش أزماتها من جهة أخرى والتي لم تصل بعد إلى القناعة بأن أزماتها لن تُحل دون زوال الاحتلال فإن الأمر سيبقى كما هو لفترة قادمة، طالما يتنامى فيها التطرف الديني والصهيوني وفق ما تشير إليه الاستطلاعات، في وقت تغيب فيه أية معارضة جادة ليبرالية لاستمرار الاحتلال واضطهاد شعب آخر، مع إبقاء الاحتمالات الأخرى قائمة في حال فشل تنفيذ السيناريو السابق، وذلك إما بتصعيد سياساتها بالضفة الغربية بعد ما أتموا اشكال مختلفة من تهويد القدس على مرأى من العالم، أو توسيع حربهم باتجاه لبنان مرة أخرى أو كليهما إذا ساد الجنون والتطرف الأيدولوحي لديهم، ولم تتخذ الإدارة الامريكية المنشغلة بانجاح العجوز بايدن أية إجراءات جادة أمام ذلك .


لذلك، وبالرغم من أن تحقيق هذا السيناريو يعتمد على العديد من العوامل، بما في ذلك قدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على إدارة التوازنات السياسية الداخلية والخارجية، وردود فعل أبناء شعبنا والفصائل الفلسطينية، والوضع الدولي. بينما قد يبدو الفصل حلاً عملياً مصلحياً لبعض الأطراف التي لم تعمل على إنهاء الانقسام بفعل تداعيات الانقلاب، وغياب الانتخابات وعوامل أخرى، فإنه قد يؤدي إلى تعميق الانقسام الفلسطيني، وتفاقم التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وتدمير المشروع الوطني التحرري، ما يجعل تحقيق الحرية والاستقرار أكثر تعقيدا.

حماس الجديدة ولعبة المسار السياسي

هذا السيناريو الافتراضي سيُدخل حماس الجديدة في لعبة المسار السياسي والمفاوضات، وقد فُرضت اشتراطات عليها ومتطلبات منها.


في الوقت الذي سيستمر الاحتلال في سيطرته الأمنية المطلقة هناك، ويستمر في إلحاق أضرار أوسع بشعبنا كافة ومحاولات تنفيذ الهجرة الطوعية قسرا بشكل أكبر، وتنفيذ ضم الضفة الغربية واقعياً، استمرارا لرؤيتهم المستندة للمشروع الصهيوني والتوراتي.


قد يكون هذا شكلا من إعادة التاريخ لنفسه إلى حد ما، بعد جوهر وشكل مأساة النكبة الأولى وما يمكن اعتباره بعد نتائج أوسلو التي وصلنا لها اليوم وفق الحالة القائمة، والتي لم تكن كما اعتقد البعض منا باعتبار ذلك الإتفاق ممرا أجباريا لتحقيق الدولة. فبعد ٣٠ عاما منذ ذلك التاريخ لم تقم الدولة، بل أصبحت السلطة القائمة دون سلطة فعلية، بل ويعمل الاحتلال على تقويضها.

إلا أن السياقات تختلف بشكل كبير اليوم، رغم أن حماس قد تواجه نفس التحديات التي واجهتها منظمة التحرير سابقاً من متطلبات محددة أدخلتها لعبة السياسة والمفاوضات من خلال محاولة إيجاد التوازن بين المبادئ الأساسية، والمكاسب الدبلوماسية، وشرعيات الولايات المتحدة وإسرائيل كقوة قائمة بالاحتلال وفق الاتفاقيات التي تم توقيعها، والتي اعتبرتها إسرائيل اليوم منتهية وغير ملزمة لها. تلك التوازنات التي غُلبت فيها بعض الجوانب على حساب أخرى تمثل مفهوم حركة التحرر الوطني خلال الفترة الماضية، فقد تناقضت المنظمة مع ذاتها بالمبادئ والرؤية والتكتيك بالتعاطي مع الواقع، إلا أنها حافظت على البرنامج السياسي نحو إقامة الدولة على كامل حدود عام ١٩٦٧ مع ضرورة ضمان حل قضية اللاجئين، وفق القرار الأممي ١٩٤.

بداية مرحلة جديدة

التحركات الحالية قد تشير إلى بداية مرحلة جديدة تُدخل حماس في ذات التناقض بين المطلق والممكن والواقع بعيدا عن الاهداف وتجعل منها حركة اجتماعية سياسية قابلة للتعاطي مع المشاريع الدولية وهذا يعتمد على تطور الأمور خلال الفترة القريبة .


لقد واجهت المنظمة آنذاك وما زالت تحديات كبيرة في الحفاظ على الشرعية الشعبية بعد أن دخلت في اتفاقات وصفت بالمؤقتة واصبحت مستدامة مع دولة الأحتلال إلاسرائيلي الذي يسعى اليوم بتقويض دورها ومكانتها دون ان يؤدي ذلك الى إنهاء الأحتلال ، ما أدى إلى انتقادات شعبية داخلية وخارجية من الاصدقاء لها على اثر اختلال التوازن الأساسي بين مكونات الكفاح الوطني التحرري الفلسطيني وبين القبول الدولي والدعم المالي والسياسي وتنفيذ التزامات الاتفاقات المجحفة.


إن واقع سياسات دولة الاحتلال وطبيعتها ورؤيتها لن تتغير طالما لم يتم إسقاط الفكر الصهيوني، ولن تستجيب إلى أية حلول سياسية تنهي الاحتلال الاستيطاني، ولذلك يتوجب الحذر من رؤيتهم لمحاولة الفصل، والانتباه أيضاً إلى عدم تكرار تجارب سابقة لم تؤد سوى إلى ما وصلنا إليه الآن، ليس لأننا نريد ذلك، لكن لأنه أصبح واقعاً قائماً بحكم التعاطي مع سياسات الولايات المتحدة السرابية، والتجاوب بالانجرار إلى بحث ومناقشة حلول أمنية واقتصادية، وعدم تحمل المجتمع الدولي لمسوؤلياته.


وهنا وفي هذا السياق أرى أن من الضرورة الإشارة إلى ما كتبه الصديق د. أياد البرغوثي في مقالته التي أشرت إليها في البداية والتي جاءت بعنوان: "منظمة التحرير الفلسطينية، وحدانية الشكل وازدواجية الجوهر". ومما جاء فيها: "استمر الرئيس أبو عمار في قيادة المنظمة ذات الجوهرين الذي يمثل أحدهما الحق الفلسطيني الأسمى (المطلق)، ويمثل الآخر الحق الفلسطيني (الممكن). كان يعتبر الممكن خطوة نحو المطلق، لذلك لم يشعر بأي تناقض بين الجوهرين والدورين، ولم يفكر في وجود مشكلة في قيادتهما معاً".


بقي أبو عمار حتى بعد اوسلو معتقداً (أو هكذا نعتقد أنه اعتقد)، أنه رغم كل التعقيدات المستجدة، فإنه يستطيع قيادة الممكن نحو المطلق، إلى أن اتضح له أن الاتفاق مع الإسرائيليين لا يعني إلا أن يكون الممكن في مواجهة المطلق وعلى حسابه، وأن ما بدا من قبولهم للممكن واعترافهم به هو أمر مؤقت لاستخدامه للقضاء على ما يمثل المطلق، هذا إن كان هناك ممكن أصلا عند التعاطي مع الاسرائيليين. فوجد نفسه يقود عربتين تسير كل منهما عكس الأخرى، وعندما تيقن أن ذلك هو المطلوب منه فضل النهاية التي نعرف."


ويضيف الصديق البرغوثي وهو ما أتفق حوله معه :"إن منظمة التحرير التي يجب ان تعمل على حل تلك الازدواجية والتي لا مكان لها، هي التي تمثل القضية كحركة تحرر نقيةٌ حادةٌ واضحةٌ ومباشِرة ومتعالية على الواقع، وهدفها التغيير الكلي والثوري لذلك الواقع. ليست وظيفتها البحث عن حلول مع المشروع الصهيوني وإسرائيل، بل الحفاظ على الصراع معه حتى وصوله إلى نهايته الطبيعية بإنهاء ذلك المشروع بالتحرر الكلي والشامل لفلسطين، هذه الشخصية من المنظمة من المستبعد والغريب أن نجد لها معارضة بين الفلسطينيين ."

قاعدة الوحدة الوطنية

اعتقد أن هذا الإطار من الشكل والجوهر هو ما سيشكل قاعدة الوحدة الوطنية لكافة أبناء شعبنا دون انفصام في الأدوار، فالوحدة تتمثل بوضوح الاستراتيجية وبالرؤية والبرنامج وأدوات العمل في منظمة التحرير، وليس بالإضافات الكمية لفصائل، رغم أهمية مشاركتها كافة. وهنا تكمن ضرورة العودة لتحديد الهدف الأساس الذي شارف لربما على الضياع، وبناء الاستراتيجية الفلسطينية في ضوء ذلك الهدف، وبعدئذ يمكن الحديث عن شكل البنية التنظيمية التي يمكنها الدفع باتجاه تحقيق ذلك في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، بما يتفق مع دورها ومكانتها، بين أبناء شعبنا، وبما حملته من إرث كفاحي ودور دولي مكتسب، بفعل تضحيات شعبنا على المستوى الدولي، عندما بدأت كمكوّن طليعي في اطار حركات التحرر العالمية ضد أشكال الاستعمار القبيح.

إن واقع سياسات دولة الاحتلال وطبيعتها ورؤيتها لن تتغير طالما لم يتم إسقاط الفكر الصهيوني، ولن تستجيب إلى أية حلول سياسية تنهي الاحتلال الاستيطاني.