دستورية حظر الإضراب في الوظيفة العامة



دخل نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام رقم (33) لسنة 2024 حيز التنفيذ بعد توشيحه بالإرادة الملكية السامية ونشره في الجريدة الرسمية، حيث تضمن هذا التشريع الجديد مجموعة من النصوص القانونية، أهمها تلك المتعلقة بحظر الإضراب في الوظيفة العامة. فالمادة (67) من النظام الجديد تنص بالقول «يُحظر على الموظف وتحت طائلة المسؤولية التأديبية القيام أو الاشتراك في أي مظاهرة أو إضراب أو اعتصام أو التحريض عليها أو أي عمل يمس بأمن الدولة ومصالحها، أو يضر أو يعطل مصالح المواطنين والمجتمع والدولة».

إن هذا القيد المفروض على الموظف العام بعدم الاشتراك في أي إضراب أو مظاهرة ليس بجديد، حيث جرى تضمينه نظام الخدمة المدنية الحالي لعام 2020 قبل تعديله، بالإضافة إلى وروده في أنظمة الخدمة المدنية القديمة لعامي 2007 و2013.

وهذا الحكم التشريعي المتعلق بتنظيم الوظيفة العامة يتوافق مع الدستور، وبالأخص المادة (16/1) منه، التي تنص على حق الأردنيين في الاجتماع العام ضمن حدود القانون. فالحق في التجمع السلمي، الذي يعتبر الإضراب والاعتصام مظهرا من مظاهره، ليس مطلقا، وإنما أجاز المشرع الدستوري تنظيم حدوده وآلية ممارسته بقانون، شريطة المحافظة على جوهر ذلك الحق وعدم المساس بأساسياته.

وتكمن الفلسفة التشريعية في حظر الإضراب في الوظيفة العامة، أن الموظف العام يعمل في مرفق عام أنشأته الدولة وتديره بنفسها إدارة مباشرة أو من خلال أسلوب المؤسسة العامة، وذلك من أجل تقديم خدمات عامة للأفراد المتعاملين مع ذلك المرفق. فمن أهم المبادئ الفقهية التي تحكم عمل المرفق العام عدم جواز تعطيله وديمومة عمله دون انقطاع، وهي القاعدة التي تتنافي مع تقرير الحق في الإضراب للموظفين العموميين. فأي خلل في السير الحسن للمرافق العامة بسبب الإضراب أو الاعتصام سيؤدي إلى توقف الحياة العامة والإضرار بحق الأفراد في الحصول?على الخدمات العامة الأساسية.

في المقابل، فقد اعترف القانون الإداري بحق الموظف العام في المطالبة بحقوقه والتعبير عن رأيه في مواجهة الإدارة بوسائل متعددة أهمها تقديم الشكاوى والعرائض، والتظلم الإداري، وتقرير الحق للإدارة في سحب القرار أو تعديله، وحق الموظف العام في اللجوء إلى القضاء.

كما يخالف إضراب الموظف العام قاعدة أساسية مفادها أن الوظيفة العامة تكليف باَداء خدمة عامة. فهي لا تنشأ بقصد شغلها من قبل عدد من الموظفين وتقرير حقوق وظيفية لهم، بل يكمن الهدف من إنشائها في تزويد المرافق العامة بالعناصر البشرية والوسائل القانونية لتلبية الحاجات العامة للأفراد. وعليه، فإن المزايا الممنوحة للموظفين العموميين مقررة في الأصل لصالح الوظيفة ذاتها ومن يشغلها بحكم مركزه القانوني، ولا يجري منحها لصالح الموظفين أنفسهم.

كما يخالف الإضراب في الوظيفة العامة الإطار العام الذي يحكم العلاقة التنظيمية بين الموظف العام والدولة بإداراتها المختلفة. فالموظف العام يعد في مركز تنظيمي في مواجهة السلطة العامة، والتي يثبت لها الحق بأن تتدخل وبإرادتها المنفردة في تعديل ذلك المركز القانوني أو إلغائه في أي وقت تشاء دون أن يكون للموظف العام الإدعاء بثمة حق مكتسب له في البقاء فى وظيفة بعينها. من هنا، فإن الإضراب من شأنه دخول المضربين عن العمل في مفاوضات مع السلطة العامة لتعديل مراكزهم التنظيمية، وهذه النتيجة تتعارض مع طبيعة المرافق العامة وم? تقوم عليه من حسن اختيار موظفيها لتقديم خدمات عامة للأفراد.

وإلى جانب ذلك، فإن الإضراب فى المرافق العامة الحيوية كالتعليم والأمن والصحة والقضاء والاقتصاد يشكل عدوانا صارخا على سلامة الدولة وأمنها الوطني، وافتئاتا جسيما على المصلحة العامة المتمثلة فى ضرورة تقديم الخدمات العامة للمواطنين ضمن إطار حقوقهم الدستورية في الصحة والتعليم والنقل. ففي حال حدوث تعارض بين حقين دستوريين، يتم تغليب الحق الدستوري الجماعي المتعلق بحماية المجتمع ومصالح المواطنين فيه على الحق الفردي الخاص المقرر للأفراد، ومن ضمنه الإضراب.

وتجدر الإشارة إلى أن الحق في الإضراب على الصعيد الدولي لم يحظ بالاهتمام ذاته الذي حظي به غيره من الحقوق الدستورية، فلا توجد اتفاقية دولية صادرة عن منظمة العمل الدولية تتعلق بالحق في الإضراب في المرافق العامة. كما لم تتضمن كل من الاتفاقية الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية رقم (87) لسنة 1948 بشأن الحرية النقابية وحماية حق التنظيم، والاتفاقية الدولية رقم (98) لسنة 1949 بشأن حق التنظيم والمفاوضات الجماعية فى نطاق القانون الخاص نصوصا صريحة تتعلق بالحق فى الاضراب، وذلك باستثناء ما قررته لجنة الحريات النقابي? التابعة لتلك المنظمة، والتي ربطت الإضراب بالعمل النقابي لكن بقيود.

وعلى صعيد منظمة الأمم المتحدة، فقد خلا الإعلان العالمى لحقوق الإنسان من أي إشارات واضحة وصريحة تتعلق بالإضراب باستثناء حكم المادة (20) منه التي تتعلق بالحق في حرية الاشتراك في الاجتماعات. كما أن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966 الذي كرّس الحق في الإضراب في المادة (8) منه، قد نص صراحة على وجوب ممارسته وفقا لقوانين البلد المعني.
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة