ملابس المذيعة...جدل لا ينقطع



ما زال الزي الذي ترتديه المذيعة خلال عملها في قراءة النشرات، أو تقديم البرامج، يفجِّر الجدل باطراد، وهو أمر لا يتعلق فقط بصناعة الإعلام، واشتراطاتها المُعقدة والمُتعددة، ولكنه يتصل أيضاً بالسياق السياسي والاجتماعي والثقافي السائد في مختلف البلدان.


وإذا ثار السؤال عن السبب الذي يكمن في تحول زي المذيعة بالذات عاملاً لتفجير المشكلات، مقارنة بأزياء المذيعين من الرجال، فإن الإجابة يجب أن تتضمن -بشكل أو بآخر- الإشارة إلى الضغوط والمحددات التي تؤطر عمل المرأة في الصحافة، سواء كان ذلك في المجتمعات التقليدية أو في الدول المتقدمة.

ولذلك، لم يكن مستغرباً أبداً أن يكون زي المذيعة خبراً في حد ذاته؛ وهو أمر لن يتوقف عند تفجير المشكلات الإدارية الداخلية في المؤسسات الإعلامية؛ لكنه سيمتد ويتوسع ليضحى في بعض الحالات «مشكلة قومية»، أو مساءلة برلمانية، أو أزمة سياسية. لقد حدث ذلك مئات المرات، منذ ظهرت الصحافيات النساء على شاشات التلفزة، ليقدمن الأخبار، ويستضفن المصادر، أو خلال تغطيتهن للأحداث الميدانية خارج الاستوديوهات.

فمن تركيا التي طُردت فيها مذيعة من عملها، بعد اتهام مسؤول بالحزب الحاكم لها بارتداء «زي فاضح»، عام 2013، إلى أفغانستان التي قررت فيها حكومة «طالبان»، عام 2022، عدم ظهور المذيعة من دون تغطية وجهها، ما فجر أزمة كبيرة، إلى الكويت التي طُردت فيها مذيعة من عملها، عام 2018، بعدما عدَّ مسؤول أنها ترتدي زياً «غير لائق» في شهر رمضان، تتوالى هذه الحوادث من دون انقطاع.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) من عام 2022، كانت المذيعة المعروفة في شبكة «سي إن إن» كريستيان أمانبور، قد حصلت على موافقة الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، لإجراء حوار معه في نيويورك، على هامش مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ لكن الأمر انتهى حيث كانت المذيعة تجلس في الاستوديو أمام مقعد خالٍ، بعدما تخلَّف الرئيس عن الحضور؛ لأنها لم تستجب لطلب مكتبه بضرورة «ارتدائها الحجاب».

لا يحدث ذلك في المجتمعات الشرقية فقط؛ لكنه يحدث أيضاً في بلدان أخرى، سواء في روسيا وشرق أوروبا، أو حتى في شمال تلك القارة؛ حيث أعلى «المعايير الجندرية»، والمراتب المتقدمة في مؤشرات حقوق الإنسان والمساواة وتمكين النساء.

وفي الأسبوع الماضي، كنا على موعد جديد مع «زي المذيعة»؛ لكن هذه المرة في السودان؛ حيث انفجرت مشكلة تحولت أزمة سياسية في البلد الذي لا تنقصه الأزمات، حين اقتحمت مجموعة غاضبة من أبناء قبيلة البجا مقر هيئة الإذاعة والتلفزيون الرسمية، في بورتسودان، شرقي البلاد، وأوقفت البث المباشر، بداعي رفض مدير التلفزيون العمومي ظهور إحدى المذيعات بالزي التقليدي للقبيلة.

يقول المحتجون، في بيانات وتصريحات صدرت عن الهيئة التي تعبر عنهم، إن المدير هدد المذيعة بالطرد لارتدائها الزي القبلي، وهو الأمر الذي عدُّوه بمنزلة «ازدراء» لقبيلتهم ونمطها الثقافي الذي يشكل جزءاً جوهرياً من هويتها، مطالبين بطرد المدير. وفي المقابل، تعهدت السلطات القائمة على تشغيل الإذاعة والتلفزيون العموميين بالتحقيق في الأمر، بعدما أكدت احترامها للمكونات القبلية، وتراثها الثقافي، ونفت أن يكون ثمة اضطهاد للمذيعة بسبب انتمائها العرقي.

تثير تلك الأزمات التي تندلع من حين إلى آخر في كثير من البلدان، بسبب أزياء المذيعات، كثيراً من الأسئلة بخصوص القواعد التي يجب أن تحكم الزي الذي ترتديه النساء خصوصاً عند قيامهن بعملهن الإعلامي.

والشاهد أن التلفزة العمومية بالذات يجب أن تُرسي مبادئ ومعايير واضحة للزي الذي يرتديه المذيعون عموماً، سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ لأن ذلك النوع من المؤسسات يُمَوَّل عادة من الأموال العامة، بهدف تحقيق أهداف قومية، يجب أن تتضمن تعزيز الهوية، والاندماج، والمساواة، واحترام التنوع والقيم والثقافة السائدة في المجتمع الذي يُناط بها تمثيله والتعبير عنه.

كما أن المؤسسات الإعلامية الخاصة أيضاً يجب أن تطور معاييرها بشأن الزي الذي يرتديه منسوبوها خلال العمل، حسب بيان مهمتها، ونطاق عملها، واتساقاً مع الهوية المؤسسية التي تريد أن ترسيها لنفسها.

تظل عملية وضع قواعد للزي الذي يرتديه الصحافيون في المؤسسات الإعلامية مسألة مؤسسية تخضع لرؤية القائمين على العمل، وتقديرهم المُعلن والمُسوغ، ويظل بوسع العاملين في تلك المؤسسات المطالبة بتغيير تلك القواعد، عبر القنوات المشروعة، سواء كانت مهنية أو نقابية أو إدارية أو قانونية أو حتى سياسية؛ لكن من دون إكراه، أو عنف، أو اعتداء على حق تلك المؤسسات في إدارة شؤونها.