إعلام التضليل وإعلام التطبيل وإعلام التهويل وإعلام التخذيل



لا أحد ساذجاً ليظن أن هناك إعلاماً بدون تسويات، أو حسابات أو أجندات، فلكل إعلام أب، ولكل إعلام ممول، ولكل إعلام أهداف ومصالح وغايات، الإعلام ليس بوقاً للحقيقة بقدر ما هو بوق للمصالح والأهواء.


نقول هذا الكلام بعد السقوط المروع لكل نظريات الإعلام الغربي كما درسناه وكما علمناه لطلابنا، فقد كشّر هذا الإعلام عن أنيابه، كما فعل في الحرب على العراق وعلى أفغانستان وغيرهما، وتحول هذا الإعلام إلى إعلام متحيز وأعمى، يقطر عنصرية وظلماً وخيانة لكل الموضوعية والحيادية والمساواة بين البشر وحرية التعبير المكفولة، تخلى هذا الإعلام عن كل ما تشدّق به من حضارية ومرونة وإيمان بالإنسان والإنسانية، وربما كان هذا خطأنا أننا نطلب من أعدائنا أن يعاملونا بعدل وإنصاف، وربما كان خطأنا أننا صدقنا دعاوى الغرب الاستعماري أصلاً.


على كل، فإن هذا ليس موضوعنا الأصلي، موضوع هذا المقال هو إعلامنا العربي العجيب الغريب، الذي ازدادت غرائبه وعجائبه بعد الحرب على الشعب الفلسطيني منذ السابع من تشرين الأول الماضي، ذلك أن إعلامنا العربي يقدم أروع وأفظع الأمثلة على الإعلام المذهول، واللامسوؤل واللامعقول أيضاً، إعلامنا العربي في معظمه إعلام مجند بطريقة مكشوفة ومثيرة للشفقة، وهو لا يتورع عن القفز عن الحقائق وتطويعها من أجل خدمة طغمة هنا أو هناك مرتعبة وخائفة.


وحسب تصنيفي لهذا الإعلام، فهناك إعلام تضليل حقيقي، إعلام كذاب أشر، ويقدم أنصاف الحقائق أو يقدم قراءته للحقائق والوقائع، وهي قراءة سمجة وسخيفة، لا تناسب الواقع إطلاقاً، إعلام التضليل يقدم ترتيبا آخر للأحداث، يعتم ويضيء حيث مصلحته وهدفه، والتضليل هنا ليس لخدمة المتلقي، وإنما لخدمة الحليف القريب أو البعيد ولخدمة أصحاب القرار ولخدمة من نعرف ولمن لا نعرف.


والتضليل لا يقف عند الخدمة الإخبارية ولكنه يتجاوز ذلك إلى تغيير الأولويات، وحرف الاتجاهات وتغيير قائمة الاصدقاء والأعداء.


أما إعلام التطبيل، فهو إعلام مضحك إلى درجة يخيل إليك أنك تشاهد مسرحية هزلية، وتبلغ السخرية مبلغاً في هذا الإعلام، أن يجعل من تصريح غامض للزعيم أو حاشيته، وكأنه حرّك كوكب المريخ عن مساره. إعلام التطبيل، إعلام كاذب ومزور، ويضاف إلى ذلك كله التهريج الرخيص.


أما إعلام التهويل، فهو إعلام يبالغ هنا وهناك، وينتقي القصة، ويختار الزاوية، ويبحث عن اللقطة المناسبة، هو إعلام يبحث عما يريد إلى درجة أنه لا يرى الصورة بكاملها، أو هو لا يريد ذلك أصلاً.


إعلام التهويل هو إعلام البحث عن دور سياسي قبل البحث عن الحقيقة الإعلامية. إعلام التهويل حريص على الكلمات وعلى المتحدثين وعلى الصورة بأبعادها، حتى تكتمل الأدوار وتتماسك الصورة، وهذا الإعلام يعتمد على المشاعر الطبيعية والانفعالات الأولية ومن هنا سحره وتأثيره، وقد يكون لهذا الإعلام ما يبرره أوقات الحروب، وفي حالتنا العربية والفلسطينية فإن كل شيء محسوب وبقدر.


وعلى عكس إعلام التهويل، هناك إعلام تخذيل حقيقي، إعلام يستقصد التفريق والشقاق، ويتعمد الصيد في المياه العكرة والصافية معاً، ويأتي بالمختلف عليه والمسكوت عنه والذي لا حاجة به الآن. إعلام يتخفى بالموضوعية من أجل التهويل والتضليل والتخذيل، ويحتمي بالموضوعية من أجل إثارة النعرات وإثارة الجدل فيما لا يجدي.


هل هذا تقسيم صحيح ودقيق ، قد لا يكون! وقد يكون أنني اختزلت أو ظلمت، ولهذا وجب عليّ أن أقول إن الإعلام العربي، الذي تطور وتقدم واستثمر في الموارد البشرية والتقنية، استطاع حقاً في بعضه على الأقل أن يواجه سيلاً هائلاً من الإعلام الغربي والإسرائيلي، الذي عمل جاهداً، ولمدة طويلة، أن يغسل الوعي والقلب.
الإعلام العربي رغم كل عيوبه يتجه إلى لغة إعلامية احترافية في ظل هزيمةٍ ماحقةٍ تراجع فيها خطاب الوحدة بكل تجلياتها.

دلالات