افتحوا الحدود وحاربوا!
تسمع بعد أن طالت الحرب الهمجية على أهل غزة من البعض المتحمس «افتحوا الحدود وحاربوا»، والحديث هنا للجوار الفلسطيني العربي، وحتى أبعد، بخاصة مصر والأردن، أما دول أخرى، بخاصة المنتجة للنفط، تقول تلك الأصوات، عليكم أن توقفوا تصدير النفط، كل ذلك نتيجة العاطفة الشديدة، التي قد تغطي في الكثير من الأوقات جزءاً من العقل وربما كل العقل.
من يطالب بذلك يجد الحجة المقنعة للبعض، أي صاحب التفكير العاطفي، والمناصرين وبكثرة، في فضاء سياسي - ثقافي مثقل بالأوهام، على رأس تلك الأوهام أن ما سبق من تجارب يمكن أن يعاد! أو أن الحق لوحده قادر على جلب الانتصار على الآخر.
لنتأمل هذا المشهد السياسي الواقعي، ففيه الكثير من العبر، وكيف تفكر الدول، ففي ديسمبر (كانون الأول) 1968، والرئيس ليندون جونسون يودع فترة رئاسته، على أن يخلفه الرئيس المنتحب ريتشارد نيكسون، وبعد أكثر قليلاً من عام على الحرب الكارثية في يونيو (حزيران) 1967 التي فقدت فيها بلاد عربية جزءاً كبيراً من أراضيها، بل هي كارثة ما زال تأثيرها قائماً، في تلك الأيام القاتمة، دلف أحد السياسيين العرب الكبار لموعد مسبق مع جونسون، مع مساعديه، كان ذلك الرجل عروبياً ومتحمساً كطبيعة رجال ذلك الزمن، في المناقشة عتب الوزير على الرئيس، بأن الولايات المتحدة تقدم لإسرائيل كل الدعم وهي المعتدية على العرب، رد جونسون بعد أن ألقى نظرة طويلة على الرجل، وقال له، لقد خلصنا العرب من حرب شنتها ثلاث دول من حلفائنا في عام 1956، وهي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وخرجت الجيوش الثلاثة في وسط عام 1957، ولكن ذلك الخروج كان مشروطاً بعدد من الاتفاقات التي وقعت بإشراف مجلس الأمن، منها فتح ممر العقبة البحري للملاحة الإسرائيلية، ووضع قوات أممية على الحدود مع إسرائيل، كل ذلك مُزق في يوم وليلة، مع تجاهل مناشدات الأمين العام للأمم المتحدة وقتها، وضُرب بالاتفاق عرض الحائط. من يمزق الاتفاقات الدولية، قال جونسون، ليس جديراً بالثقة!
انتهى الاجتماع التاريخي برسالة، أن الخضوع للمزايدة يفتح الباب أمام المجهول، بخاصة في العلاقات الدولية.
اليوم نشهد مطالب مماثلة مزايدة، تتلخص في الدعوة إلى تمزيق الاتفاقات الدولية، وإشعال حروب مكلفة قد تدفع فيها الشعوب ثمناً باهضاً غير متصور، في ظل تقدم التقنية الحربية، والدعم اللامحدود لإسرائيل من الغرب، بخاصة الولايات المتحدة، التي لا تحتاج إلى الكثير من الأدلة، وقد يتحول التعاطف الحاصل من قطاعات شعبية في الغرب اليوم إلى تعاطف مضاد، تجيد تسويقه الماكينة الصهيونية.
المزايدة صفة لصيقة بالعقل السياسي العربي في معظمه، فرغم كل الدم والتضحية التي قدمها أهل غزة، يخرج علينا السيد خالد مشعل من مكانه الآمن ليعلن للناس أن حركته ضد حل الدولتين، يروم هدم الجهد الذي بذلته الدبلوماسية العربية، بدلاً من البناء عليه، وبعد اقتناع مبدئي من دول وازنة بأنه هو الحل الممكن لإنهاء الصراع، ذلك التصريح يدخل البهجة على اليمين الإسرائيلي، الذي هو رافض أصلاً حتى الحديث في هذا الموضوع، فالمفارقة أن يتوافق مطلب اليمين الإسرائيلي مع أطروحات السيد خالد، وهو البعيد عن نعوش الموت الذي يدفنها أهل غزة كل ساعة!
هذا الداء الذي اسمه المزايدة، أخذ الكثير من أهل هذه المنطقة المنكوبة من طاقة ومال وزمن ثمين، ولا يزال يفعل، لأن هناك جمهوراً يطرب إلى سماع أغاني النصر في الإذاعة، وهزيمة الأعداء على الورق، ويصرف النظر على أن هذا العالم هو عالم متوحش، يعترف فقط بالقوة، والقوة اليوم ليست قادمة من الكلام المنمق، بل هي نابعة من اعتماد المنهج العلمي في مقاربة الأشياء، سواء السياسية أو الاجتماعية.
المزايدة الحالية ترمي إلى دفع الجسم العربي غير الموبوء بالصراعات إلى ساحة المجهول، بالتالي توسيع قاعدة الفقر والعوز، كما هي مبتلاة بلاد مثل السودان أو اليمن أو سوريا أو لبنان، ربما دول أخرى فقدت معنى الدولة، وحلت محلها الميليشيات المتطرفة.
آخر الكلام: فشلت معظم القيادات الفلسطينية، على مر الزمن، في جعل الطموحات الشخصية خلف الطموحات الوطنية!